الخروج من جحيم ثغرة الدفرسوار، مقال ضمن آلاف المقالات للكاتب الصحفي فتحي رزق في كتابه “جسر على قناة السويس”، وهو مجموعة مقالات ذات طبيعة خاصة، عبارة عن يوميات واقعية لأيام الحرب، ما بين نكسة 67، وحرب اكتوبر 73، على امتداد 2500 يوم، والتي تسرد أحداث وذكريات تلك الأيام، التي بلغ فيها كفاح الشعب المصري، وصموده وصلابته وإيمانه بأرضه وأبنائه.
نشارككم اليوم أحد أبرز المقالات في كتاب “جسر على قناة السويس”، في أيام “ثغرة الدفرسوار”، في يوم 21 أكتوبر 73، وهو مقال “الخروج من جحيم ثغرة الدفرسوار”:
الأحد 21 أكتوبر 1973- الساعة السابعة مساءًا
الخروج من جحيم ثغرة الدفرسوار
الخروج من جحيم ثغرة الدفرسوار
خرجت حيًا بمعجزة من قلب منطقة الدفرسوار، التي تشتعل في جحيم ليس له مثيل.. أمضيت عشر ساعات في أرض النار هناك.. شاهدت تدمير خمس طائرات هليوكوبتر للعدو، خلال سلسلة من المحاولات المستميتة لإمداد قواته في مناطق “ثغرة الدفرسوار” بالسلاح والمواد التموينية، منها طائرتان ضربتا بالمدفعية المضادة للطائرات، واثنتان أسقطتا خلال المعارك الجوية، وضربتهما الطائرات المصرية بالصواريخ، فدمرتهما في الجو. أما الطائرة الخامسة فقد دمرتها دبابة مصرية، وهي تحاول الهبوط في ممر مطار صغير قديم في منطقة الدفرسوار.
تمكنت قواتنا الجوية من إسقاط طائرتين للعدو فوق القنطرة، إحداهما فانتوم، والأخرى سكاي هوك. وتم أسر ثلاثة من طياري العدو، بينما دارت سلسلة من المعارك الجوية العنيفة شرقي القناة، كانت خسائر العدو فيها تسع طائرات أُسقطت.
تركزت المعارك البرية اليوم شرقي منطقة الدفرسوار، حيث اقترب الجيشان الثالث والثاني الميداني إلى مسافة 4 كيلو مترات، لتضييق خطوط العدو، بين “الثغرة” ورأس الجسر الإسرائيلي والخط الذي يسيطر عليه العدو في المحور الأوسط من سيناء.. وأخذت معارك الدبابات الكبرى تنحسر في مسافة ضيقة، مما كان له أكبر الأثر في الخسائر العالية للعدو ولقواتنا معًا.
وتمكنت قواتنا البرية من أسر عشرة من أطقم الدبابات الإسرائيلية، التي دمرت أو أصيبت أو استسلم أفرادها، ونجحت في التقدم إلى الأمام، وحررت المزيد من الأرض، بينما يستميت العدو في الإبقاء على خطوطه مفتوحة مع الجسر الإسرائيلي، الممتد إلى غرب القناة في الدفرسوار.
للمزيد إقرأ أيضًا:
- موشيه ديان اعترف بسرقة الآثار المصرية في سيناء.. صور
- شهادات الإسرائيليين في معركة المزرعة الصينية: “أُرسلنا لنكون طعامًا للدبابات”:
- حرب أكتوبر وكورونا: وباء الغطرسة الإسرائيلي يحتفل بمرور 47 عاما|مقال رأي
الصورة داخل الجيب الإسرائيلي في الدفراسوار غريبة ومثيرة حقًا.. العدو يريد أن يقول إنه يقاتل في غرب القناة، هذا صحيح، لكن أي نوع من القتال.. لقد لجأ إلى تشتيت دباباته ومدرعاته، بعضها يختبئ وراء التلال والجبال المحيطة بالمنطقة (جبال شبراويت)، وبعضها داخل الحدائق الكثيفة بالمنطقة، وبعضها داخل منازل الفلاحين، الذين تعرضوا لإرهاب العدو وإجبارهم على مغادرتها.. بل إن العدو لجأ إلى طلاء عدد كبير من دباباته بلون الدبابات المصرية.. لكي تتحرك بحرية في المنطقة.
أما أفراد العدو فهم يستخدمون أسلوب حرب العصابات في الاختباء، والكثير منهم يرتدي الآن ملابس مدنية، ويتحرك بها بين سكان المنطقة، ليجمع معلومات عن قواتنا، التي تحاصرهم من الغرب والشرق والشمال والجنوب في وقت واحد.
المعارك هنا (داخل هذه المنطقة والمحاور والقطاعات والتجمعات السكانية والقرى المتداخلة فيها) لها طابع يختلف تمامًا على المعارك الدائرة على أرض سيناء.. إنها تدور في أرض ضيقة جدًا، وفي مناطق تصعب فيها إلى حد كبير حركة الدبابات والمدرعات. فهي ليست ساحة قتال بالمعنى العسكري، إنها أرض صالحة بالفعل لحرب العصابات، والقتال داخل القرى والحدائق والأشجار الكثيفة. وخلال معارك الثغرة اليوم تم القضاء على مجموعة كاملة من دبابات العدو وأفراده، بالقرب من الجزء الضيق من البحيرات المرة الصغرى عند الدفرسوار، ومجموعة ثانية في المجموعة الواقعة بين سرابيوم وفايد.
كما تم ضرب عملية الإمداد التي حاول العدو القيام بها عند منطقة الدفرسوار وسرابيوم، وفرض حصار محكم حول باقي قوات العدو، بحيث يتم في نفس الوقت منعها من العودة في اتجاه البحيرات أو قناة السويس.. أيضًا تم إحباط كل محاولات العدو الجوية لإسقاط الذخائر والأغذية، أو إسقاط دعم من الأفراد للقوات المتسللة، وفي ذلك قام الدفاع الجوي بدور بارز في إحباط محاولات العدو التي قام بها خلال الساعات الأولى من صباح اليوم وعند الظهر. كما شاهدت فشل الطائرات الإسرائيلية في الاقتراب من منطقة الحصار.
تمكنت قواتنا في المنطقة من دفع باقي دبابات العدو إلى الخروج من بين المناطق والأشجار والحدائق حتى دخلت أرض الموت، التي حددتها قواتنا تمهيدًا للقضاء عليها، وتم إحكام الحصار حولها، من كل الأماكن والاتجاهات في منطقة الضبعية جنوب غرب الإسماعيلية، تحيط بها كمية من النيران المركزة والكثيفة.
لجأ العدو صباح اليوم إلى شن سلسلة من الغارات الجوية الكثيفة على مواقعنا غرب القناة، محاولا مساعدة دباباته المذعورة، للخروج من داخل الحصار، والوصول إلى الطرق المؤدية لقناة السويس، ليساعدها على الاختباء، ولكن دفاعاتنا الجوية الجديدة في المنطقة صنعت سدًا من نيرانها الكثيفة في وجه طائرات العدو، التي كانت تعود بسرعة إلى الشرق على ارتفاعات عالية.
والآن.. ما أهداف العدو.. من هذه المحاولات الفاشلة، والتي تعتبر محاولة انتحارية لن تحقق شيئًا يغير من واقع سير المعارك على أرض سيناء.. إن قادة العدو الصهيوني يعرفون جيدًا أن محاولة التسلل إلى غرب القناة، مهما كان حجمها لن تنتهي بالفشل فقط، بل بالتدمير الشامل، وإبادة قادتهم في سيناء، ويعرفون أيضًا أن حجم الحشد العسكري المصري وقوة القوات المصرية غرب القناة لايمكن مقارنتها بقدرة قواته من الأفراد والدبابات، التي تتسلل خلال المعارك الرهيبة في سيناء لتختبئ مذعورة غرب القناة.
وهم يعرفون أيضًا أن هذه القوة الإسرائيلية لن تعود مرة أخرى إلى شرق القناة.. لن تعود إلى سيناء، ومع ذلك دفعوا بها إلى أرض الموت.. في عملية تشتيت مستمر بين الحقول وشبكة الترع والمصارف تائهة تنتظر التدمير.
ومن هنا يمكن تلخيص أهداف العدو من هذه المحاولة الانتحارية فيما يلي:
- محاولة إزعاج قواتنا غربي القناة.
- محاولة التأثير بكل الوسائل على خطوط الإمدادات والتعزيزات لقواتنا في سيناء.
- رفع الروح المعنوية بين جنوده في سيناء، بالإدعاء بأن لهم قوات تقاتل غرب قناة السويس.
- شل فعالية الدفعات الجوية المصرية المضادة للطائرات، بعد أن استطاعت خلال المعارك تدمير الكثير من طائرات العدو، وأفقدته السيطرة الجوية منذ بداية المعارك حتى الآن.. غير أنه حقق نجاحًا محدودًا في ذلك.
- لفت الأنظار من خلال أجهزة الإعلام العالمية، إلى أنهم يقاتلون غربي القناة.. بحيث تغطي أخبار المحاولة الإسرائيلية على الضربات العنيفة التي توجهها القوات المصرية لقوات العدو على أرض سيناء.
من جديد أؤكد رغم أنهم غرب القناة.. فإنهم دخلوا حصار الموت، وعليهم أن يقاتلوا قتالًا مريرًا، على مدى 24 ساعة في اليوم مقابل وجودهم هناك.
إنهم الآن لا يستطيعون الانسحاب شرقًا، ولا يستطيعون التقدم شبرًا واحدًا بعيدًا عن المناطق السكنية والأشجار والحدائق، لأن ذلك معناه تدمير كل دبابة تظهر في الأرض المكشوفة في نفس اللحظة..
وقد شاهدت اليوم تدمير ثلاث دبابات للعدو، حاولت الخروج من طريق أبو سلطان إلى الصحراء المكشوفة على طريق السويس- الإسماعيلية الصحراوي، ودمرت في خلال دقائق، ومازالت موجودة هناك على بعد نحو 100 متر فقط من منطقة الحدائق التي كانت تختبئ فيها.
وقد أجبرت اليوم على تغيير الطريق ثلاث مرات للعودة إلى الإسماعيلية، حيث تدور في المناطق الواقعة بين غرب قرى السعيدية والضبعية وأبو عطوة وجنوب الإسماعيلية معارك طاحنة بين رجال الصاعقة المصرية والمظليين الإسرائيليين، الذين يقودهم شارون، بمساعدة أعداد كبيرة من الدبابات، للوصول إلى الطريق الموصل للمدخل الغربي لمدينة الإسماعيلية الواقع بين بحيرة التمساح وترعة السويس.. وكادت نيران المدفعية تصيب سيارتنا أكثر من مرة..
وعرفت أن شارون أُصيب إصابة بالغة في جبهته ورأسه من نيران قواتنا في “ثغرة الدفرسوار”، وقد خسر الكثير من قواته أفراد المظلات. إن خطة شارون هي الالتفاف حول المدخل الغربي لمدينة الإسماعيلية، وقطع الطرق المؤدية للمدينة وطرق إمداد الجيش الثاني.
وتأكدت أن رجال الصاعقة الذين يتولون مسئولية الدفاع عن هذه المنطقة يوجهون للعدو ضربات قاتلة، وأنه لن يتمكن من الوصول إلى الإسماعيلية مهما كانت النتائج أو الخسائر بأي حال من الأحوال.
المصدر: فتحي رزق، جسر على قناة السويس، الهيئة العامة لقصور الثقافة، ص 399- 402.