محتوى المقال
الیھودیة الاصلاحية (التعریف والنشأة)
الیھودیة الاصلاحية فرقة دینیة یھودیة حدیثة، ظھرت في منتصف القرن التاسع عشر في ألمانیا، وانتشرت منھا إلى بقیة أنحاء العالم، وخصوصا الولایات المتحدة، وھي تسمى أیضا ” الیھودیة اللیبرالية” و “الیھودیة التقدمیة” وظھور الحركات الإصلاحیة في الیھودیة یعود إلى أزمة الیھودیة الحاخامیة أو التلمودیة التي ارتبطت بوضع الیھود في أوربا قبل الثورة الصناعیة، فقد فشلت الیھودیة التلمودیة في التكیُّف مع الأوضاع الجدیدة التي نشأت بعد الثورة الصناعیة٠
وقد أدى سقوط الجیتو (العزلة التي فرضها الیھود على أنفسهم)، ثم حركة الإعتاق السیاســـــــــــي ( الاندماج في المجتمع ) إلى تصعید حدة الأزمة بین الیھودیة الحاخامیة والعلمنة الإصلاحیة، إذ عرضت الدولة القومیة الحدیثة الإعتاق السیاسي على الیھود شریطة أن یكون انتماؤھم الكامل لھا وحدھا، وأن یندمجوا في المجتمع سیاسیا واقتصادیا وثقافیا ولغویا ، وھو ما كان یتعارض وبشكل حاد مع الیھودیة الحاخامیة، التي عَرَّفت الھویة الیھودیة تعریفا دینیا عرقیا، وجعلت الانتماء الیھودي ذا طابع قومي٠
وقد استجاب الیھود إلى نداء الدولة القومیة الحدیثة، وظھرت بینھم حركة التنویر الیھودیة، والدعوة للاندماج، و الیھودیة الاصلاحية جزء من ھذه الاستجابة.
إقرأ أيضًا:
ومن أسباب نشأة الیھودیة الاصلاحية ما ذكره بعض العلماء بقولهم: كان رقي العلم والثقافة في أوروبا، وظهور القوميات المستقلة، وتألق نظريات الحرية الفردية وحقوق الإنسان، وضـرورة مجاراة التقدم الحضاري لأوربا الحديثة، ونجاح العلمانية واعتمادها منطلق الحياة في أوربـا، وحاجة اليهود إلى القوة الغربية، أدت بهم إلى ضرورة التأقلم مع الفكر الحديث، والخروج من العزلة التي فرضوها على أنفسهم، والعمل على استيعاب الشباب بعد انصـرافه عـن الجمـود اليهودي القديم٠
كل ذلك أدى إلى ظهور حركة الإصلاحيين على يد “موسى مندلسون” الـذي ولد في ديسوي بألمانيا سنة ١٧٢٩ م ومات في برلين سنة ١٧٨٦ م، وكانت لـه آراء جديـدة تعتبر دستورا لهذه الفرقة، وخلاصتها: يجب أن يندمج اليهـود فـي إنسـانية العصـر، وأن يخرجوا من قوقعة العنصرية التي حبسوا أنفسهم فيها طيلة قرون طويلة ـ اليهودية ديـن فقـط وليست جنسية ـ المساواة في الحقوق المدنية بين اليهود وغيرهم غيـر ممكنـة إلا إذا اعتبـر اليهود أنفسهم مواطنين في البلاد التي يعيشون فيها ، وتحدثوا لغات أوطـانهم، وتعلمـوا فـي مدارسها، وحاربوا في جيوشها٠
كل هذه كانت أسبابًا لظهور ونشأة الیھودیة الاصلاحية في الغرب، كرد فعل لليهودية الحاخامية التلمودية الجامدة٠
صلة الیھودیة الاصلاحية بالصهيونية وإسرائيل
كان من المنطقـي أن تعـادي الیھودیة الاصلاحية بنزعتها الاندماجية الحركة الصهيونية بنزعتها القومية وتمجيدها للتلمـود، ولكن لأن اليهود في الغرب جزء لا يتجزأ من المصالح الاقتصادية والسياسية لـبلادهم، وهـذه البلاد في مجموعها تشجع المشروع الصهيوني، لذا لم يكن مـن الممكـن أن تسـتمر العقيـدة الإصلاحية في مقاومة الواقع الغربي الممالئ للصهيونية، فأخذت الیھودیة الاصلاحية في تعديل عقيدتها بشكل عام يتواءم مع الرؤية الصهيونية، وبالفعل بدأ الإصلاحيون في العودة إلى فكـرة القومية اليهودية الصهيونية والأرض المقدسة، وقد زاد التفـو ق الصـهيوني داخـل معسـكر اليهودية الإصلاحية إلى درجة أن الاتحاد العالمي لليهودية الإصلاحية عقـد مـؤتمره السـنوي الخامس عشر في مدينة القدس للمرة الأولى سنة ١٩٦٨ م، وقد انضم الاتحاد العالمي لـ الیھودیة الاصلاحية إلى المنظمة الصهيونية العالمية سنة ١٩٧٦ م.
ويتحدث صاحب رسالة “العلاقة بين العلمانيين والأصوليين في المجتمع اليهـودي المعاصـر” عن حجم التيار الإصلاحي العلماني في إسرائيل وأحزابه السياسية خاصة حزب العمل، قائلا: الیھودیة الاصلاحية من أكبر التيارات العلمانية في إسرائيل.
إقرأ أيضًا: فلسطين الأرض الجرداء في خطاب بن غوريون
وينتمي العلمانيون في إسرائيل إلى عدد كبير من الأحزاب السياسية الإسرائيلية، وفي مقدمتها حزب العمـل الإسـرائيلي، أحـد الأحزاب الرئيسة في إسرائيل، وأكثرها وصولا للسلطة في تاريخ إسرائيل. تم تأسيسـه سـنة 1930م، من مجموعة من الاتحادات ذات الطابع الاشتراكي باسم “ماباي”، وسـيطر منـذ اللحظة الأولى على الحركة الصهيونية العالمية، وهو بشكل عام حزب علماني فلم تَجِد اليهودية الإصلاحية بدا من أن تتصالح مع الصهيونية، وينضم اتحادها العـالمي إلـى المنظمة الصهيونية العالمية، وتصبح ذراعها الأيمن في تنفيذ مخططاتها الصهيونية على أرض فلسطين، من خلال أحزابها السياسية.
أوجه الشبه بين الفرق الأربع اليهوديـة القديمـة واليهوديـة الإصلاحية
رغم أن بعض الفرق اليهودية القديمة قد انطفأت وطواها الزمن، كفرقـة الصـدوقيين والأسينيين، وبعضها صار عددها قليلا كفرقة السامريين والقرائين، إلا أن لهذه الفرق الأربـع أثرا وامتدادا في العصر الحديث، وصلة تربط بين هذه الفرق القديمة والفرق الحديثـة خاصـة الیھودیة الاصلاحية، لأوجه الشبه الكثيرة التي تربط بينهما.
ومن أوجه الشبه المشتركة بين هذه الفرق الأربع القديمـة (الصـدوقيين والسـامريين والأسينيين والقرائين) واليهودية الإصلاحية :
الإيمان بالتوراة وإنكار الشريعة الشفوية ( التلمود ): فالصدوقيون آمنوا بأسفار التوراة الخمسة وأنكروا الشريعة الشفوية، وتعاليم الحاخامات وكل ما كانوا يسمونه بالتقليد، وكـل تفسير حرفي لظاهر النصوص الواردة في الأسفار الخمسة.
والسامريون والقـراؤون يؤمنـون بأسفار التوراة الخمسة ويزيدون عليها سفر يشوع، ولا يؤمنون بباقي الأنبياء ولا بأسـفارهم، ولا يعدونها وحيا من عند االله، وينكرون الروايات الشفوية (التلمود)، ويرونها موسوعة مـن الأكاذيب، والقراؤون أكثر تشددا في إنكار التلمود، حيث ألغى عنان جميع التشـريعات التـي قررها الربانيون مستندين في تقريرها إلى أسفار التلمود، وأدخل على كثير من تشريعاتهم التـي استمدوها من فهمهم لنصوص التوراة تعديلات، استمدها هو من اجتهاده الخاص ومـن فهمـه لنصوصها، حيث قال بالاجتهاد، بمعنى إذا تبين الخلف خطأ السلف، كان للخلف تصحيح هذا الخطأ.
إقرأ أيضًا: تحميل كتاب الفرق والمذاهب اليهودية منذ البدايات pdf
كما استغنى الأسينيون عن الهيكل في كل شعائرهم وطقوسـهم وأسـرارهم ، وكـانوا لا يدخلون هيكل أورشليم، لكراهيتهم سفك دم الحيوان الذي يقوم به الكهنة. أما اليهودية الإصلاحية فإنها (تؤمن بأن التوراة نصوص أوحى الإله بهـا للعبـرانيين الأولين، ولذا يجب احترامها وتقديسها، ولكنها يجب أن تتكيف مع العصور المختلفة، ويجـب على اليهودي أن يحاول فهم وتفسير هذا الوحي من آونة إلى أخرى، وأن ينتقد منـه مـا هـو ممكن في لحظته التاريخية، ومعنى هذا أن الإصلاحيين أعادوا تفسير التوراة واليهوديـة علـى أسس عقلية علمية.
إن التوراة هي الذاكرة الجماعية لليهود، ومصدر من مصادر اليهودية الإصلاحية العلمانية، وهي نصوص يعتقد اليهود أنها موحى بها ويجب احترامها، إلا أن هذا الاحترام لا يقف عند حد القداسة والجمود، بـل يجب على اليهودي أن يحاول فهم وتفسير تلك النصوص بما يتمشى مع روح العصر، وصـفة الإلزام الشرعي للنص التوراتي تبقى سارية المفعول، طالما كانت الأوضاع الاجتماعيـة التـي جاءت الشريعة لمعالجتها منسجمة مع النص، أما في حال تغيير الأوضاع، فإن الشريعة هنـا تفقد صفة الإلزام المطلق، ويجب نسخها وإن كان الإله صاحبها، وأي تشريع لا يلائـم فلسـفة هذا العصر الحديث ومدنيته ، فهو مرفوض.
وقد ركز الإصلاحيون على الجانب والجوهر الأخلاقي على حساب الجانب الشعائري أو القرباني، فأهملوا التحريمات المختلفة التي ينص عليها القانون اليهودي، وخصوصـا القـوانين المتعلقـة بالطعام والشراب والكهانة، لأنهم يرون أن اليهودية الحاخامية تدور في إطار الشعائر المرتبطة بالدولة اليهودية والهيكل، والتي لم تعد لها أي فاعلية أو شرعية، وأنكروا الأمل فـي العـودة للطقس القرباني والكهنوتي.
ولا يعترف اليهود الإصلاحيون بالشريعة الشفوية (التلمود)، ويشبهون في هـذا الصـدوقيين والسامريين والقرائين، حين جعلوا منبع التشريع الوحيد هو التوراة، وأنكر الإصلاحيون قداسة التلمود وسلطته الإلزامية، واعتبروه مجموعة من تفسيرات المشرعين والشارحين يرجع عهدها إلى فترة متأخرة، ويعبر عن السلطة الحاخامية. ووجه الإصلاحيون سهام نقدهم إلى التلمود، وبينوا ما فيه من خرافات وحكايات تتنافى مع العقل.
واستمر هذا الهجوم الشرس مـن التيـار الإصلاحي العلماني على التلمود، وتصاعد هذا الهجوم مع تصاعد حدة حركة التنوير المعاديـة على العموم لأية نصوص مقدسة، وأعلن دعاة حركة التنوير أنه لا أمل يرجـى فـي تطـوير اليهود إلا بالإطاحة بسلطة التلمود، وبينوا للحكومات الغربية مدى خطورة هذا الكتـاب وأنـه سبب هامشية اليهود وتخلفهـــم.
إن القاسم المشترك بين الفـرق اليهوديـة القديمـة واليهودية الاصلاحية هو الإيمان بالتوراة، وفتح باب الاجتهاد والتفسير بعيدا عـن الحرفيـة، لتتامشى مع روح العصر، وإنكار الشريعة الشفوية (التلمـود)، والهجـوم عليـه، باعتبـاره مجموعة من الأكاذيب.
إنكار المسيح المنتظر والبعث
ينكر الصدوقيون المسيح المنتظر ولا يترقبونه، بينما يؤمن السامريون بمجيء المسيح المخلص الذي يعيد الحظوة الإلهية التي فقدها العالم، وتـأتي هذه الفكرة مقترنة بفكرة تجديد العهد مع الرب، وتتأكد مع النكبات المتعاقبة التي تحـل بهـم.
يؤمن الأسينيون بمجيء المسيح المخلص، ويعتقدون أن الخلاص بعث روحاني يهدي الشـعب إلى حياة الاستقامة والصلاح، فكأن السامريين والأسينيين أنكروا المسيح المنتظر بمعناه المادي، الذي يخلص الشعب المختار ممن ظلمه ويعيد إليه ملكـه المسـلوب، وتكـون لـه الهيمنـة والسيطرة على كل الشعوب، وآمنوا بالمسيح المخلص الذي يجدد عهد الشعب مع الرب، ويعيد إليه حياة الاستقامة والصلاح.
ويؤمن الصدوقيون بمادية الحياة، وينكرون البعث والثواب والعقاب الأخروي، كمـا ينكـرون الكائنات الروحية، ويشترك السامريون والأسينيون والقراؤون في الإيمان باليوم الآخر، الـذي سيكون في آخر أيام الدنيا، كما هو الحال عند الفريسيين، فهو إنكار للبعث واليوم الآخر علـى النحو الذي يقرره الإسلام. ويقول الأسينيون والقراؤون بخلود الروح وعدم فنائها.
أما الیھودیة الاصلاحية فإنها تنكر فكرة العودة الشخصية للمسيح المخلص، وأحلـت محلها فكرة العصر المسيحاني، وهو العصر الذي يحل فيه السلام والكمال، ويـأتي الخـلاص إلى كل الجنس البشري، وينتشر العمران والإصلاح، ويتم هذا مـن خـلال التقـدم العلمـي والحضاري.
فالفكرة المسيحانية هنا فُصلت تماما عن الشعب اليهودي وعن شخص المسـيح، وارتبطت بكل البشر وبالعلم الحديث، وبالتالي تم تأويل نظرية المسيح المنتظر التقليديـة علـى أنها نظرية الأمل الإنساني العالمي لتحقيق الحق والعدالة والسلام بين البشر جميعـا، وينطـوي هذا على إنكار نظرية ” الشعب اليهودي المختار “.
كما نادى الإصلاحيون بأن اليهودية دين وليست قومية، وأن حب الـرب لكـل مخلوقاتـه، ولا يقتصر على شعب من مخلوقاته، وأولوا فكرة الشعب المختار بحيـث تصـبح عالميـة الفكـر والتطبيق، وطالبوا بضرورة إزالة كل الشرائع التي تُميز اليهود عن غيرهم، واستبعدوا كـذلك كل العناصر القومية الموجودة في الدين اليهودي، والتي تؤكد قداسة اليهود وانعزالهم عن الأمم الأخرى، وقاموا بإلغاء الصلوات ذات الطابع القومي اليهودي، وأبطلوا كل الفوارق بين الكهنة واللاويين وبقية اليهود، وحذفوا جميع الإشارات إلى خصوصية الشعب اليهودي من كل طقوس الدين وعقيدته وأخلاقه وآدابه، وكانوا يحاولون تعميق ولاء اليهودي إلى الوطن الذي يعيش فيه، ونقل الحلول الإلهي من مكان إلهي سيعودون إليه في آخر الأيام إلى مكان يرتادونه هذه الأيام.
وأنكر اليهود الإصلاحيون فكرة البعث، حيث أن الاعتقاد في بعث الأجساد ـ حسب زعمهم ليس له أي سند ديني، وأحلوا محل فكرة البعث فكرة خلود الروح وأبديتها.
فالقاسم المشترك بين الفرق اليهودية القديمة واليهودية الإصلاحية هو إنكـار المسـيح المنتظـر بمعناه المادي، وتأويله على أنه العصر المسيحاني الذي يظهر فيه الخلاص وتجديد عهد الشعب مع الرب، ويحل فيه السلام والعمران ويشمل كل البشر، وتبع هـذا إنكـار عقيـدة “الشـعب اليهودي المختار”.
وكذلك أنكرت الفرق اليهودية القديمة و الیھودیة الاصلاحية البعـث علـى النحو الذي يقرره الإسلام، وأحلت محله فكرة خلود الروح وأبديتها.
فالتشابه في أخطر العقائد موجود بين هذه الفرق اليهودية القديمة خاصة الصدوقيين والقـرائين، وبين الیھودیة الاصلاحية الحديثة، صاحبة الصلة الوثيقة الآن بالصهيونية، وهي الجذر الأصيل للتيارات العلمانية الموجودة حاليا في إسرائيل، وفي مقدمتها حزب العمل.
اليهودية المحافظة وصلتها بالصهيونية
اليهودية المحافظة ( التعريف والنشأة )
اليهودية المحافظة هـي “فرقـة دينيـة يهودية حديثة، نشأت في الولايات المتحدة، أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كمحاولة من جانب اليهودية للاستجابة لوضع اليهود في العصر الحديث، وهـي أهـم وأكبـر حركة دينية يهودية في العالم.
ولقد نشأت اليهودية المحافظة كتيار يهودي حديث وسط بين اليهودية الأرثوذكسـية واليهوديـة المحافظة، (اليهود المحافظون يتخذون خطوة واحدة أكثر من الأرثوذكس في اتجاه الإصلاح، لكنهم يأبون اتخاذ الخطوة الأخيرة في نفس الاتجاه، التي يمكنها أن تـدفع بهـم فـي معسـكر الإصلاحيين.
فالمحافظون لم يعارضوا التغيير الذي دعا إليه الإصلاحيون، فكلاهمـا مقتنـع بضرورة التغيير وحتميته، ولكن المحافظين أرادوا أن يكون التغيير نابعا من أعمـاق الـروح اليهودية لا من خارجها.
اليهودية المحافظة ـ كما يقول صاحب “موسوعة اليهود” ـ محطة على طريق الانتقـال مـن اليهودية الأرثوذكسية إلى الیھودیة الاصلاحية أو العلمانية، وحسب تعبير أحد الدارسـين فـإن المسافة الزمنية بين اليهودية المحافظة و الیھودیة الاصلاحية عشرة أعوام، ثـم تلحـق الأولـى بالثانية، ولقد بدأت المسافة بين الفريقين في التناقص.
وقد لاحظ الحاخام “ملتـون بـولين” (رئيس المجلس الحاخامي في أمريكا) أن ثمة فجوة بين الأرثـوذكس مـن جهـة والمحـافظين والإصلاحيين من جهة أخرى، وأنها آخذة في التزايد، حتى أنهم أصبحوا يشـكلون يهـوديتين مختلفتين.
وهناك عنصر مشترك أساسي بين اليهودية المحافظة والإصلاحية، فهما يهدفان إلى حل إشكالية الحلول الإلهي في الشعب اليهودي، والصيغة الحلوليـة التقليديـة تجعـل الشـعب اليهودي مقدسا، وهو أمر لا يمكن أن تقبله الدولة القومية الحديثة التي تجعـل نفسـها موضـع القداسة، ولا العصر الحديث الذي يجعل العلم موضع الإطلاق.
ورغم تماثل الجذور الفكرية لـ الیھودیة الاصلاحية والمحافظة، فإن تشـابه اليهوديـة المحافظـة بنيويا مع اليهودية الأرثوذكسية واضح وقوي، ولذا نجد أن كلا من اليهودية المحافظة واليهودية الأرثوذكسية تؤمنان بالثالوث الحلولي: الإله أو التوراة، والشعب، والأرض.
وفي حـين يؤكد الأرثوذكس أهمية الإله والوحي والتوراة، نجد المحافظين يبرزون أهمية الشعب وتراثـه وتاريخه، أي أن الاختلاف ينصرف إلى تأكيد أحد عناصر الثالوث الحلولي على حساب عنصر آخر، ويضفي كلا الفريقين هالة من القداسة على حياة اليهود وتاريخهم، وهي قداسة يرجعهـا الأرثوذكس إلى أصول إلهية، ويرجعها المحافظون إلى أصول قومية أو إلى روح الشعب.
ولليهودية المحافظة تشابه مع اليهودية الإصـلاحية مـن جانـب، وتشـابه مـع اليهوديـة الأرثوذكسية من جانب آخر .
اليهودية المحافظة ( المبادئ )
تقوم اليهودية المحافظة على عدة مبادئ، أهمها أن الأمة اليهودية تتألف من مقومات ثلاثة متساوية: الشعب الإسرائيلي والتـوراة والإلـه، فبينما أظهر الإصلاحيون الشعب على التوراة وعلى الإله، وأظهر الأرثـوذكس الله والتـوراة على الشعب، ساوى المحافظون وعدلوا بين المقومات الثلاثة.
كما تؤمن اليهودية المحافظة بأن الشعب اليهودي قد تطور عبر تاريخه، وبأن اليهوديـة لـم تتجمد أبدا، وأنها كانت قادرة على التكيف مع اللحظة التاريخية ومع روح العصر، ولهذا فهـي ليست مجموعة ثابتة من العقائد، وإنما هي تراث آخذ في التطور التاريخي الدائم، ومـن هنـا كان إطلاق اسم “اليهودية التاريخية” على هذه المدرسة وخصوصا في أوربا.
ورغم أن الملة المحافظة ترى أن التراث الديني اليهودي ليس مرسلا مـن الإلـه (عكـس الأرثوذكس)، فإنها لم تتخذ موقفا نقديا من التوراة أو التراث اليهودي (عكس الإصلاحيين)، ويؤكد المحافظون على أن الشريعة ملزِمة لليهودي، وأن اليهودية تدور حول الأوامر والنواهي التي تغطي السلوك الإنساني، ولكن مع هذا لابد أن تظل الشريعة مرنة مرونة تجعلهـا قـادرة على مواكبة العصر الحديث، وسد حاجة الإنسان اليهودي الحديث.
ولذا لابد أن تتسـم عمليـة تفسير الشريعة بقدر عال من الإبداع، وبناء على هذه المرونة وذلك الإبداع فإن المحـافظين لا يمانعون من إدخال بعض التعديلات على الشعائر الدينية، مثل إقامة الصلوات والوعظ باللغـة التي يفهمها العابدون، وكون النساء جزءا من النصاب المطلـوب لإقامـة صـلاة الجماعـة، والسماح باختلاط الجنسين في أعمال الكنيس والطقوس، وأن تكون هناك من النساء حاخامـات ومنشدات.
كما لا يؤمن المحافظون بالعودة الفعلية والشخصية للمسيح، ويطرحون بـدلا منهـا العصـر المسيحاني الذي سيتحقق بالتدريج، ويصبح تأسيس الدولة اليهودية داخل هذا الإطـار، خطـوة أولى نحو تحقيق هذا العصر.
كذلك يؤمنون بأن الأمل في العودة إلى صهيون فكـرة مهمـة لـدى اليهود لابد من المحافظة عليها، ومساعدة الاستيطان اليهودي في فلسطين، ولا يتنـافى هـذا الأمل بأية حال مع الولاء للوطن الذي يعيش فيه اليهودي.
صلة اليهودية المحافظة بالصهيونية
الفكر الصهيوني يشبه في كثير من الوجـوه فكر اليهودية المحافظة، وقد ارتبطت اليهودية المحافظة بالصهيونية منذ البداية، فقـد تأسسـت منظمة محافظة صهيونية هي منظمـــــــــــة “مركاز” (حركـة إعـادة تأكيـد الصهيونية المحافظة)، وقد أصدرت الجمعية الأمريكية للحاخامات قـرارا للمعابـد اليهوديـة المحافظة بالانضمام إلى المنظمة الصهيونية العالمية بشكل جماعي.
فاليهودية المحافظة فرقة دينية يهودية حديثة، ظهرت للتوفيق بين اليهودية الأرثوذكسية واليهودية الإصلاحية، فهي وسط بينهما، وإن كانت أقرب إلى الإصـلاحية، خاصـة فـي ضرورة تطوير اليهودية لتتكيف مع روح العصر، وإنكار العودة الشخصية للمسيح واسـتبدالها بالعصر المسيحاني، والصلة القوية التي تربطها بالصهيونية منذ البداية.
يتضح في ختام هذا المطلب أن الفرق اليهودية القديمة، لها صلة وثيقة بالفرق اليهوديـة الحديثة، فاليهودية الأرثوذكسية والتيارات الأصولية الموجودة حاليا في إسرائيل، امتداد فكري وعقائدي لفرقة الفريسيين، والأرثوذكسية الأصولية هي الملة المعترف بها رسميا في إسرائيل، والتي تنظم وتدير الحياة الدينية والمدنية.
واليهودية الإصـلاحية (وقريـب منهـا اليهوديـة المحافظة) والتيارات العلمانية الموجودة حاليا في إسرائيل، تربطها علاقة قوية وأوجـه شـبه كبيرة بباقي الفرق الأربع اليهودية القديمة.
والفرق اليهودية الحديثة الثلاث بتياراتها الأصـولية والعلمانية وأحزابها السياسية، تربطها صلة قوية بالصهيونية، إما لأن أفكار الصهيونية تتفـق معها، أو لأنها تصهينت لمصالح معتبرة عندها، والكل متفق على تنفيذ المخططات الصـهيونية، وإقامة دولتها الإسرائيلية المزعومة.
المصدر: محمد محمد محمد إبراهيم كركور، الفرق اليهودية القديمة وآثارها في الواقع اليهودي المعاصر.