اين ولد سيدنا ابراهيم عليه السلام
تجمع التقاليد العبرية على أن مسقط رأس سيدنا إبراهيم الخليل إنما كان في مدينة “أور”، والتي دعوها بـ “أور الكلدانيين”، طبقًا لروايات عديدة في أسفار التوراة، وهي منطقة الفرات الأدنى. ولم يكن أحد يعرف أور هذه، وإن كانت كلمة الكلدانيين تشير بالتأكيد إلى ميزوبوتاميا، حتى تم اكتشاف المدينة في القرن الماضي عام 1854م، في مكان “تل المقير- على مبعدة 192 كليومتر إلى الشمال من مدينة البصرة الحالية، 16 كيلومترًا شرقي نهر الفرات في العصر الحاضر، في منتصف المسافة تقريبًا بين بغداد والخليج العربي.
أور الكلدانيين
وتدل الاكتشافات التي تمت في “أور” على أن هذه المدينة كانت في بداية الألف الثالثة قبل الميلاد، مدينة عظيمة يسكنها كثير من الأغنياء، الذين ابتنوا لأنفسهم منازل من الآجر المحروق.
ويرد “سيرليو ناردوولي” على السؤال: اين ولد سيدنا ابراهيم عليه السلام بأن إبراهيم الذي أتى إلى حاران- وتقع على نهر بلخ على مبعدة 96 كيلومترًا من اتصاله بالفرات، وإلى الغرب من تل حلفا، وعلى مبعدة 448 كم إلى الشمال الشرقي من دمشق، من أور الكلدانيين، إنما قد ولد في أحد المنازل الرئيسية في أور، ثم نشأ بها.
ثم يخلص “وولي” إلى أن الأب العبراني الذي أمضى سنيه الأولى في مثل هذه الحياة إنما كان مواطنًا في مدينة عظيمة، وأنه قد ورث تقاليد حضارة عريقة عظيمة. وأن المنازل الرئيسية تكشف الراحة، فضلاً عن الفخامة، ومن هنا يذهب وولي إلى أن إبراهيم لم يكن بدويًا بسيطًا، وإنما كان مواطنًا في مدينة عظيمة في الألف الثالثة قبل الميلاد.
للمزيد إقرأ أيضًا:
- المسلسل الإسرائيلي “اتونوميا- حكم ذاتي” الحلقة الثالثة مترجمة إلى العربية
- مصرايم بن حام وسبب تسمية مصر بهذا الاسم| الاسم في التوراة والتاريخ
- البذور المعيبة التي زرعها موشيه دايان وحصدتها إسرائيل في حرب اكتوبر 1973
هذا وقد أوضحت الحفائر البريطانية التي أجريت في “أور”، في الفترة ما بين 1922- 1934م، وكذا الوثائق المسمارية التي اكتشفت في مواقع أخرى، أن “أور” إنما كانت تعيش في أوفر درجات الرخاء، من حوالي عام 2060 وحتى 1950 ق. م، عندما دمرت بواسطة الغزو العيلامي.
على أن هناك وجهًا آخر للنظر، يذهب إلى أن مدينة “أور” التي ورد ذكرها في التوراة، على أن إبراهيم الخليل قد قدم منها، ليست في بابل، ولا تقع على الخليج العربي، بل هي من إقليم العراق الأعلى في منطقة الجزيرة بين دجلة والفرات.
ويعتمد أصحاب هذا الاتجاه على أن هناك أدلة أخرى في التوراة نفسها تشير إلى مكان آخر، غير “أور” المشهورة في منطقة الفرات الأدنى، منها أولاً: أن إبراهيم عندما أرسل خادمه العجوز “اليعازر الدمشقي” من كنعان إلى مدينة أخيه ناحور، ليحضر زوجة لولده إسحاق، إنما دعى مكان ناحور هذا، والذي استقر فيه بشمال ميزوبوتاميا، بأنه أرضه ومقر عشيرته، كما دعاه كذلك “بيت أبيه”، و “أرض ميلاده”.
وثانيًا أن المدينة التي قصدها يعقوب ليجد فيها الحمى عند خاله لابان من غضب أخيه عيسو، بعد حادث البركة المشهورن إنما كانت حاران قرب أديسا. وثالثًا، أنه بعد استيلاء الإسرائيليين على الأرض المقدسة، نرى يشوع يخاطب الشعب بهذه الكلمات: “آباؤكم سكنوا في عبر النهر، تارح أبو إبراهيم وأبو ناحور”، ولما كانت مدينة أور قد اكتشفت على الضفة اليمنى للفرات، فإن من ينظر إليها من كنعان يرى أنها تقع على نفس جانبه، وليس على الجانب الآخر من النهر.
ويتساءل “كيلر”: هل كان وولي متأنيًا في استنتاجه هذا؟ وما هو الدليل الذي قدمته بعثته الحفرية؟ وما الدليل على أن تارح وابنه قد عاشا حقيقة في مدينة أور المشهورة؟
إن الرحلة المبكرة في أور الكلدانيين إلى حاران، ماعدا اكتشاف المدينة نفسها، ليس لها أساس أثري. ويعلن الأستاذ “وليم فوكسويل أولبرايت” الحقيقة الجديرة بالاعتبار، وهي أن “الترجمة الإغريقية” للتوراة لا تذكر “أور” أصلاً، وإنما نقرأ بدلاً عنها ما هو طبيعي أكثر “أرض الكلدانيين”، والتي تعني أن انتقال موطن إبراهيم الأصلي إلى أور، ربما كان أمرًا ثانويًا، وأن ذلك لم يكن معروفًا في القرن الثالث ق. م.
وقد بزغت “أور” من الماضي المظلم كعاصمة للسومريين، أصحاب واحدة من أقدم حضارات ميزوبوتاميا. ومن المعروف أن السومريين ليسوا ساميين كالعبرانيين، وعندما تدفق غزو القبائل السامية من الصحراء حوالي عام 2000 ق. م، وكانت مواجهته الأولى في الجنوب مع مزارع أور الواسعة ومنازلها وقنواتها. ومن المحتمل أن ذكريات هذه المرحلة العظيمة التي شملت أراضي الهلال الخصيب، متضمنة اور، قد أدت إلى أن تذكر في التوراة.
هذا ويؤكد البحث المضني، وبخاصة الاكتشافات الأخيرة، أن إبراهيم الخليل عليه السلام، لم يكن أبدًا مواطنًا في عاصمة السومريين، لأن ذلك يتعارض مع كل الأوصاف التي أعطتها التوراة لأنماط الحياة التي عاشها رب العائلة، إذ كان إبراهيم ساكن خيام ينتقل بقبيلته من مرعى إلى آخر، ومن بئر إلى أخرى، وهو لم يعش كمواطن في مدينة عظيمة، وإنما كان يعيش حياة بدوية صرفة، ومن هنا كان الاتجاه إلى أن الموطن الأصلي لأبي الأنبياء عليه السلام في حاران وليس في أور.
الخلاف حول موطن ابراهيم عليه السلام الأصلي
وهكذا، فإن هناك رأيين، فيما يختص بموطن إبراهيم الخليل الأصلي، وكل منهما يعتمد في الدرجة الأولى على نصوص التوراة، والتضارب بين نصوص التوراة أمر معروف، ونظائره كثيرة.
ويدعم الرأي القائل بأن موطن إبراهيم عليه السلام هو حاران وليس أور، أن نصوص سفر التكوين صريحة في نسبته إلى حاران؛ ولذلك يجب أن نفهم: “من أرضك ومن عشيرتك”، على أنها تشير إلى ميزوبوتاميا وحاران، وليس إلى بابل وأور، هذا فضلاً عن أن نص سفر التكوين (24: 4، 40) إنما يشير بوضوح إلى أن موطن إبراهيم الخليل إنما كان في حاران.
كذلك فإن الترجمة السبعينية تحذف من النص كلمة “أور” وتستبدلها بأرض الكلدانيين. ولكن حتى الإشارة إلى الكلدانيين قد توقعنا في خطأ من ناحية التسلسل التاريخي، وذلك لأن الكلدانيين قوم ساميون أتوا إلى بابل الجنوبية حوالي عام 1000 قبل الميلاد، ثم نجحوا آخر الأمر في تكوين الإمبراطورية الكلدانية، أو الدولة البابلية الجديدة (626- 539 ق. م)، وكان من البديهي أن يعطي كتبة التوراة المدينة الاسم الشائع “أور الكلدانيين” في أيامهم.
وهناك لوحة أكدية في أوجاريت “رأس الشمرا” يكتب فيها الملك الحيثي “خاتوسيل الثالث” (1275- 1250 ق. م) إلى ملك أوجاريت “تكميا” يسأله عن حالة تجارة الذين يتاجرون مع أوجاريت، وقد دعى هؤلاء التجار “مواطنون من أورا”، ولما كان الاسم “أورا” يمكن أن يكون بسهولة “أور” في العبرية، فهذا يثبت وجود مدينة أخرى باسم “أور”. وربما كانت بالتخمين في مكان ما في الشمال الغريب، وأن هذه المدينة يمكن أن تكون “أور الكلدانيين”، وهذا يتطلب وجود كلدانيين في شمال غرب ميزوبوتاميا، كما هو الأمر في ميزوبوتاميا السفلى، وأن هذا الأمر قد سبق أن قرره “أكسيفون” حوالي 430- 355 ق. م، حيث يذكر أن الكلدانيين كانوا سدًا منيعًا في الطريق إلى أرمينيا، وأنهم جيران اللآراميين.
ويفترض بعض الباحثين أن “أور” هذه كانت من مجاورات “حاران”، ويعتمد هذا الفرض على أن هناك فقرة في “المصدر اليهودي” قد وضعت “كاسد” الجد الأعلى للكاسيديم، في هذه المنطقة، وجعلته من أبناء ناحور. وبما أن الكاسيدييم أو الكلدانيين كانوا لزمن طويل بدوًا يعيشون على حياة السلب في الصحراء الغربية، وعلى حدود فلسطين، وأن أور لم تذكر بين المدن التي كانت مهدًا لإمبراطورية نمرود، أي بين المراكز القديمة لحضارة ميزوبوتاميا السفلى، ومن ثم يكون الافتراض الآخر أن الكاتب الكهنوتي أول من ذكر “أور كاسديم”، وفي هذه الحالة فإنه يصبح من الصعب الاعتقاد أنه حددها في بابل السفلى.
ومن هنا فمن الأفضل أن تكون أور، طبقًا لهذا الكاتب الكهنوتي، في مجاورات حاران، وبالذات إلى الشرق منها طبقًا لتقاليد محلية ترجع إلى القرن الرابع الميلادي، ولعل “امينانوس مرسيلينوس” (330- 400 ق. م) كان يعنيها في إشارة له من نفس التاريخ إلى قلعة تضع بين سنجار والدجلة.
ومنها ثالثًا أن إبراهيم وعشيرته حين استقروا في كنعان كانوا على اتصال بحاران وبأقربائهم فيها، بعكس أور التي لا نعرف لهم صلة بها بعد ذلك. بل ليس هناك ما يشير إلى أي تأثير لهذه المدينة على حياة الآباء الأولين، فمثلاً هناك المذابح الحجرية غير المنحوتة التي استعملها العبرانيون، ولم يستعملها السومريون.
ومنها رابعًا أن مدينة حاران تعد المدينة الرئيسة في منطقة فدان أرام، والتي كانت الاسم المبكر لآرام النهرين، مركز الاستقرار الآموري الجديد. ولعل هذا هو السبب الذي دفع البعض إلى القول بوجود قرابة من نوع ما بين العبرانيين والآراميين، ذلك لأن الأجداد الأوائل المعروفين لإسرائيل كانوا قد انخرطوا في ميزوبوتاميا الشمالية، وأن أقرباء إبراهيم يمكن أن يوحدوا في الغالب بمواطن المجموعة الآرامية اليت تزوج منها إسحاق ويعقوب. وأن الأعراف الصحيحة الواضحة في تقاليد البطارقة تظهر نفس لحمة النسب هذه، وبالمثل فإن كل التقاليد الميزوبوتامية البدوية تتجه إلى فلسطين.
هذا فضلاً عن أن أسلاف أبناء يعقوب أراميون من جهة الأم، وهناك عبارة في سفر التثنية تسمي أبا العبرانيين أراميا. أضف إلى ذلك أن سفر التكيون، الذي يروي بدء التاريخ العبري، مملوء بصيغ ومفردات آرامية، بل إن أثر اللغة الآرامية لم يكن مقصورًا على سفر التكوين، وإنما امتد كذلك إلى أسفار عزرا ونحميا وأستير، وأسفار الأنبياء يونان وحجي وزكريا وملاخي ودانيال، فضلاً عن سفر الجامعة وبعض المزامير التي أضيفت إلى مزامير داود، إلى جانب آيات من سفر إرميا، وأخيرًا فإن أسلاف العبرانيين إنما كانوا يتكلمون الآرامية قبل دخولهم فلسطين وتحدثهم بالكنعانية.
اسماء عشيرة ابراهيم عليه السلام
ومنها خامسًا أن أسماء “سروج وتارح وناحور وهاران”، أسماء بابلية، مما يشير إلى ميزوبوتاميا كموطن لهم. هذا فضلاً عن أن إبراهيم كانت له عشيرة، مما قد يشير إلى أنه بدوي أو نصف بدوي، وكان البدو الميزوبوتاميون يهبطون نهر دجلة في الشتاء متجولين حتى “شط الحي”، على مقربة من أور، وليس ببعيد أن تكون عشيرة إبراهيم إنما كانت تفعل الشيء نفسه، وربما من هنا أتت الصلة بأور.
ومنها سادسًا أن بعض أسماء آباء إبراهيم وأسرته مثل “فالج وسروج وناحور وتارح”، والأمر كذلك بالنسبة إلى أسماء بعض المدن في المنطقة. بل إن اسم حاران نفسه قريب من اسم أخ لإبراهيم، وهناك مدينة أخرى باسم ناحور ورد ذكرها كثيرًا في آثار آشور وماري “تل الحريري”.
هذا فضلاً عن أن والد إبراهيم يسمى تارح، كما تدعوه التوراة، وقد اكتشفت اسم مدينة تعرف بـ “تل الوارحي” أو “التوارخي”، أما جده “سروج” فهناك مدينة بنفس الاسم بالقرب من حاران، ومن هنا فإن وحدة الاسم قد تأتي مصادفة في حالة شخص واحد، ولكن أن تكون متفقة في أربعة أسماء على الأقل في حيز محدود، فهذا شيء آخر.
ومنها سابعًا أن “سير ليوناردو ولي”، وهو واحد من المتحمسين للنظرية التي ترى في أور موطنًا لإبراهيم- يرى أن أور وحاران هما مدينتا إله القمر، حيث يسود سلطانه الديني فيهما. وأنه كان يعبد في أور تحت اسم “نانار Nannar”، بينما عبد في حاران تحت اسم “تارح”، فلو كانت أور هي الموطن الأصلي لإبراهيم، لأخذ أبوه اسم الإله فيها، ولم يأخذ اسمه في حاران، مما يدل على صلة القوم بحاران، وليس بأور.
وبناء على هذا كله، ذهب الدكتور محمد بيومي مهران إلى أن حاران، وليست أور، هي موطن إبراهيم عليه السلام.
ويرى بعض الكتاب المسلمين أن حاران هي مدينة هاران أخي إبراهيم، وأنها قد حملت اسمه. والأمر كذلك بالنسبة لبعض الكتاب المحدثين، ومنهم الذين رأوا في حاران موطنًا للخليل عليه السلام.
كذلك ذهبت بعض آراء المؤرخين المسلمين إلى أن موطن الخليل عليه السلام إنما كان في “حوران”، وإن ذهبت آراء أخرى إلى غير ذلك، فقد روي ابن الأعرابي أن رجلاً سأل الإمام علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- فقال: أخبرني يا أمير المؤمنين عن أصلكم معاشر قريش، قال: نحن قوم من كوثى، فقال قوم أنه أراد كوثى التي ولد بها إبراهيم، وتأولوا في هذا قوله تعالى: “ملة أبيكم إبراهيم”. وسواء أصحت هذه الرواية أم داخلها التحريف، فإنها تشير دون شك إلى صلة قريش- ابناء إبراهيم- بكوثى في العراق.