بنو اسرائيل في مصر
بنو اسرائيل في مصر: ترجع علاقة الإسرائيليين بمصر إلى دخول يوسف بن يعقوب عليهما السلام أرض الكنانة، كرقيق اشتراه أحد كبار الموظفين المصريين، ذلك أن التوراة تروي في سفر التكوين أن يوسف كان أحب إخوته إلى أبيه، إذ كان “يأتي بنميمتهم الرديئة إلى أبيهم”، وأنه “ابن شيخوخته”، وأنه رأى حلمًا فسره إخوته على أنه سيكون سيدًا عليهم، مما أدى في نهاية الأمر إلى أن تتأجج نيران الحقد في قلوبهم نحو الصديق عليه السلام، وإلى هذا السبب الأخير يشير القرآن الكريم في قوله تعالى:
“إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ، قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ” (سورة يوسف 4، 5).
وهكذا بدأ أخوة يوسف يضمرون له الشر، لأنه- فيما يعتقدون- أحب الأخوة إلى أبي الآباء، ومن ثم فقد دبروا له مكيدة، كي يخلو لهم وجه أبيهم، وأنجزوا خطتهم للتخلص منه، بأن: “اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ” (سورة يوسف 9).
وفي الواقع، أن قصة يوسف الصديق- كما جاءت في الكتب السماوية- إنما تشير بوضوح إلى أن أخوته، إنما ظلوا ردخًا من الزمن ضحايا الكبت الذي عانوه، كي يخفوا رغبتهم في التخلص من يوسف، رغبة في أن يخلو لهم حب أبيهم، ولكنهم كانوا يفشلون في إخفاؤها وكبتها، بل كثيرًا ما كانت تبدو فيما يصدر عنهم من مواقف أو كلمات ضد يوسف، مما جعل يعقوب يشك في حسن نواياهم، عندما دعوا يوسف ليلعب معهم، فقال لهم- كما جاء في القرآن الكريم- “وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ” (يوسف 13).
وكان من نتيجة هذا الكبت أن انحرفوا بتفكيرهم، فكل ما كان يهمهم هم أن يحولوا بين يوسف وأبيه، فاتفقوا على قتله، وتلطيخ قميصه بالدم، وادعاء أن الذئب أكله لما ذهبوا يتسابقون وتركوه عند متاعهم.
إقرأ أيضًا: أبشع جريمة في تاريخ البشرية: قصة محظية اللاوي في العهد القديم
غير أن التلفيق إنما كان واضحًا، لأن القميص لم يكن ممزقًا بآثار أسنان الذئب- أو كما قال يعقوب، في رواية السدى، إن كان هذا الذئب لرحيمًا، كيف أكل لحمه ولم يخرق قميصه- مما جعل يعقوب لا يصدقهم، ولهذا كان يدعوهم دائمًا أن يتقصوا آثار أخيهم، وقد وقعوا في حالة التبرير كما يفعل المذنب، إذ يعمد إلى تفسير سلوكه ليبين لنفسه وللناس، أن لسلوكه هذا أسبابًا معقولة، فهم يقولون: “يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ” (يوسف 17).
وعلى أية حال، فلقد كان أخوة يوسف قد أجمعوا أمرهم على أن يجعلوه في غيابات الجب، ولكنهم سرعان ما غيروا رأيهم هذا، حين قال لهم “يهوذا”: “تعالوا فنبيعه للإسماعيليين”، غير أن الأمور لم تسر كما يرغبون، إذ “جاء رجال مديانيون تجار فسحبوا يوسف وأصعدوه من البئر، وباعوا يوسف للإسماعيليين بعشرين من الفضة، فأتوا بيوسف إلى مصر”. وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله: “وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ، وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ” (يوسف 19، 20).
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى نوع من التناقض المعهود في نصوص التوراة، ذلك أننا نقرأ في الإصحاح السابع والثلاثين من سفر التكوين أن يهوذا هو صاحب الكلمة الأخيرة في أمر يوسف، ومن ثم فإنه يقترح أن يبيعوه إلى الإسماعيليين بعشرين مثقالاً، ولكننا نقرأ في نفس السفر أن رأوبين هو صاحب الكلمة الأخيرة، حيث يقترح إلقاءه في الجب.
ومن ثم فقد وجده تجار من مدين هناك، والأمر كذلك بالنسبة إلى قصة بيعه إلى فوطيفار، ففي أول القصة أن الذي باعه إلى رئيس الشرطة المصري، إنما هم جماعة من أهل مدين، بينما نجدهم في آخر القصة، جماعة من الإسماعيليين، ومن المعروف أن المديانيين إنما هم من ذرية مديان ولد إبراهيم من زوجه قطورة، بينما الإسماعيليين من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.
وأيًا ما كان الأمر، فلقد هبط الصديق مصر، كرقيق اشتراه رئيس الشرطة المصري، بثمن بخس دراهم معدودة، رأى صاحب تفسير المنار أنها دون الأربيعن، على أساس أنها معدودة لا موزونة، وإنما يعد القليل ويوزن الكثير، وكانت العرب تزن ما بلغ الأوقية- وهي أربعون درهمًا فما فوقها- وتعد ما دونها، ولهذا يعبرون عن القليلة بالمعدودة، وذهب ابن عباس وابن مسعود وغيرهما إلى أنهم باعوه بعشرين درهمًا، بينما ذهب فريق ثالث إلى أنهم إنما باعوه بأربعين درهمًا، وأما التوراة فقد ذهبت- كما أشرنا آنفًا- إلى أنها عشرون مثقالاً.
إقرأ أيضًا: الحلقة الأولى من مسلسل ساعة الاغلاق| ساعات قبل حرب أكتوبر
ومهما يكن من أمر، فإن يوسف الصديق عليه السلام، قد عاش في قصر سيده المصري، الذي وصفته التوراة، بأنه “خصي فرعون رئيس الشرطة”، ولست أدري كيف دار في خلد كاتب التوراة أن رئيس الشرطة المصري إنما كان خصيًا، ومن عجب أن هذه الأكاذيب قد انتقلت إلى بعض كتب التفسير، وإن رفضتها جمهرة المفسرين، وكأن الرجل لم يكن شافعًا له- في نظر كتبة التوراة ومن لف لفهم- في دحض هذه الفرية، أنه كان زوج أجمل سيدة في البلاد؟ ولكن ما الحيلة، وصاحب سفر التكوين من التوراة إنما يرى أن حاشية القصر كانت كلها من الخصيان، حتى لنجده كذلك يصف رئيس سقاة الملك، ورئيس خبازيه بأنهما من الخصيان.
غير أن يوسف الصديق عليه السلام، إنما تعرض في أخريات أيامه في قصر سيده المصري إلى امتحان رهيب، حيث راودته إمرأة العزيز عن نفسه، لأنها افتتنت بحسنه فأحبته، وليس لها ما يردعها من خوف زوجها عن خيانته، لأنها تملك قيادة كما يشاء هواها، شأن ربات القصور المترفات اللائي أفسدت طباعهن الحرية والفراغ، وكادت له لما رفض أن يستجيب، لأن لها من نفاذ الكلمة، ومن السلطان على زوجها ما مكنها من الانتقام، رغم ما عرف زوجها من آيات صدقه.
وإلى هذا يشير القرآن الكريم، في قوله تعالى: “وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ” (سورة يوسف 23، 24).
غير أن أنباء الفضيحة سرعان ما تترامى إلى الناس، وطفق النساء خاصة يتحدثن بسقطة إمرأة العزيز، ويتناقلنها بينهن، وأنها شغفت حبًا بعبدها وخادمها، وكيف خرجت عن طبع أنوثتها في دلالها وتمنعها، ونزلت عن كبريائها وسلطانها:
“فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ، قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ، قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ، فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ” (سورة يوسف 31- 34).
وهكذا تحوت الأمور إلى صراع بين المرأة والفتى، ودخلت كما يقال دورًا من العناد والمغالبة غريب، هي بتهالكها الذي انكشف عن تبجح سافر وكبر خائر، وهو بإصراره الذي لا سبيل له إلا إلى المضي فيما بدأ وأعلن للناس، ولكنه مع ذلك لم ينج منهم ومن كيد نسائهم، وتحالفت عليه قوى البغي، فكان لهن من السلطان على أزواجهن ما حجب الحق الأيلج، وأساء إلى الخلق المتين : “ثمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ” (سورة يوسف 35).
وليس هناك ريب في أن هذه القصة إنما تقدم لنا صورة دقيقة لمجتمع فاسد آثم، تصور ما كان عليه مجتمع الدخلاء من حكام الهكسوس المغتصبين في مصر من فساد وانحلال، ولو لم يكن لدينا عن مصر في ذلك الزمان سوى تلك القصة- التي أجمعت الكتب المقدسة على صدقها- لاتخذناها وحدها دليلًا على مجتمع يسوده الأجانب والغرباء، ولنفيناها عن المصريين، ونسبناها إلى ذلك المجتمع الأجنبي مطمئنين، لأنها إنما تخالف عن طبيعة الأشياء في مصر، وتخرج عن سليقة المصري بما ركب فيه من الأنفة والحمية والكرامة والكبرياء.
إقرأ أيضًا: تحميل كتاب أساطير التوراة الكبرى وتراث الشرق الأدنى pdf
ولو نظرنا إلى بعض قصص التوراة لوجدنا قصتنا هذه أشبه بقصص التوراة وأدنى إلى مجتمعها، على حين تنبو عن مجتمع المصريين الأصيل، وتخالف تقاليدهم وأذواقهم خلافًا يفوق كل خلاف ، فمثلاً تحدثنا التوراة في سفر التكوين أن رأوبين- بكر إسرائيل وأكبر الأسباط- قد انتهك عرض أبيه، بأن ضاجع زوجته بلهة وأم أخويه- دان ونفتالي- ولم تحدثنا التوراة عما فعل يعقوب وبنوه، إزاء تلك الجريمة، حتى أننا لا ندري سببًا لسكوتها عن ذلك، وعل يتفق ذلك مع كونها كتابًا من عند الله؟ أم أن تلك سنة الإسرائيليين.
وحتى لو كان الأمر كذلك، أيصل الأمر برجل يعده الإسرائيلييون على رأس واحد من الأسباط الإثني عشر، إلى أن يرتكب جريمة الزنا مع زوج أبيه- وهي في مكان أمه- ثم هي في نفس الوقت أم أخويه، اللذين لم تحدثنا التوراة عن موقفهما إزاء ما فعله أخوهما بأمهما؟ مع أن عقابهما القتل- بنص التوراة نفسها: “إذا اضجع رجل مع إمرأة أبيه فقد كشف عورة أبيه، إنهما يقتلان كلاهما دمهما عليهما” (سفر اللاويين 20: 11).
وعلى أية حال، وأيًا كان نصيب نصوص التوراة هذه من الخطأ والصواب، فإن الصديق عليه السلام- سرعان ما يقذف به القوم من الهكسوس إلى السجن- رغم ما رأوه من براءته- مدة لم يحددوا زمنها، لأن الهدف من ذلك إنما كان أن ينسى الناس قصته مع إمرأة العزيز، هذه القصة التي لاكتها الألسن كثيرًا بين أوساط الناس.
ومع ذلك فإن الصديق إنما يتقبل ذلك صابرًا محتسبًا، ورغم أنه كان في سجنه غريبًا وحيدًا، بيد أنه كان دائمًا يسبح لمن أحيا الفؤاد بنوره، فإذا به يستشعر رحابة في وجدانه وسعت الكون كله، وسمت روحه لتتصل بروح الوجود ، وإذا به يأنس بربه، ويحس تعاطفًا مع كل ما حوله ومن حوله، وإذا بقلبه يتفتح للبشرية جميعًا، حتى الذين ظلموه لم يحقد عليهم، كانت إرادته أن يتقي الله حق تقاته، ونيته أن يخلص لله، وعزمه أن يصل حبله بحبل الله، وقصده أن يهب نفسه لله، وأن يسير في سبيل الله؛ فجزاه الله الجزاء الأوفى، فعلمه من علمه، والله بكل شيء عليم.
وكان ملك مصر من الهكسوس الغزاة قد أدخل معه صاحب طعامه وصاحب شرابه، بعد أن اتهمهما بأنهما تآمرا عليه ودسا له السم في الطعام، فراح يدعوهما إلى الله، ويذهب عنهما الحزن، ويبذل لهما ما وسعه البذل لتطمئن نفوسهما، ويرى السجناء في مسلكه الطاهر ما يجذبهم إليه، فيطلبون إليه تفسير الرؤيا وتأويل الأحلام.
ويكاد القرآن الكريم والعهد القديم يتفقان في عرضهما لهذا الأمر، وإن استغرقت التوراة كثيرًا في تفاصيل رؤيا السجينيين، على أن القرآن إنما ينفرد بذكر دعوة يوسف وهو في السجن إلى توحيد الله، وبث العقيدة الصحيحة، ويظهر جليًا في هذه الدعوة لطف مدخله إلى النفوس، وسيره خطوة خطوة في رفق وتؤده، قال: “لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي” (سورة يوسف 37).
ثم يتوغل في قلوبهما أكثر، ويفصح عن دعوته، ويكشف عن فساد اعتقادهما، واعتقاد قومهما، بعد ذلك التمهيد الطويل: “يا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ” (سورة يوسف 39).
ثم يقول لمن ظن أنه ناج من رفقائه: “اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ” (يوسف 42)، فتحين ساعة الذكرى بعد إبطال، حين يرى الملك حلمًا غريبًا لا يقدر على تفسيره أحد، فتذكر السجين السالف براعة يوسف، ويشير به، ثم ينهض إلى استفتائه، فينطق بالتأويل الصريح، وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى:
“وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ، قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ، وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ، يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ، قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ، مَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ” (سورة يوسف 43- 49).
غير أن يوسف الصديق عليه السلام يرفض أن يغادر سجنه حتى تظهر براءته للناس أجمعين، مما ألصق به من تهمة هو منها براء، وعندما يتم له كل ذلك، وتظهر براءته، تشاء إراردة الله أن يصبح الصديق على خزائن الأرض أمينًا، بعد أن كان في زوايا الأرض سجينًا، إذ ينال الحظوة عند ملك مصر، بعد أن قام بتفسير رؤياه، تفسيرًا يتفق ومقام النبوة، ويتنزه عن تفسيرات رجال البلاط وجكمائه، فيقلده ما يشبه وزارة التموين في عصرنا الحاضر.
وإن كانت التوراة تجعله أشبه برئيس الوزراء، وهكذا قدر ليوسف عليه السلام، أن يرتفع من رق العبودية إلى كرسي الوزارة، وأن يتزوج من سيدة مصرية، إذ أعطاه الملك “أسنات بنت فوطي فارع كاهن أون زوجة”، ومنها أنجب يوسف ولديه “منسي وأفرايم”.
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن التاريخ المصري إنما يصدق الأحداث التي أتت بيوسف الصديق إلى منصب الوزارة في مصر، ذلك أن مصر إنما كانت عرضة للمجاعات، وفترات من تدهور الانتاج الزراعي والحيواني على مر العصور، وقد كان ذلك في أغلب الأحايين من آثار اضطراب النيل وامتناع فيضانه، وإخلاله بالوفاء- كما تعود وتعود الناس منه كل عام- فإذا تدهور وأقام على نقائصه لم تكد مياهه لتصل إلى الأرض التي تتحرق شوقًا إليه، وتنتظر العام كله للقائه، فعندئذ فلا ري ولا استنبات، ثم لا زرع ولا ضرع، فتكون الكارثة التي تنزل بالبلاد والعباد.
ويحدثنا التاريخ أنه ما من بلد في العالم تتوقف حياته ووجوده، مصيره ومستقبله، في السلم أو في الحرب، أو يرتبط سكانه وتاريخه بنهر مثلما تفعل مصر ونهر النيل، ومن ثم فإذا بالغ النيل في فيضه أحيانًا، فتعظم أمواهه وتضري أمواجه، فإذا هو يندفع طوفانًا عنيفًا مدمرًا مغرقًا كل شيء، ثم لا يكاد ينحسر عن الأرض إلا وقد انقضى من أوان البذر وقت قد يكون على الإنتاج أيام الحصاد سيء المغبة، وإن لم يبلغ ذلك في سوئه مبلغ نقص الماء، ذلك أن النهر إن هبط عن معدله الطبيعي، فهي “الشدة” التي قد تصل إلى “المجاعة”، وإذا كان الفيضان المغرق يعني الطاعون، فإن المجاعة، كانت تعني “الموتان”، الذي يصل إلى حد ينشر معه الطاعون بدروه، بعد ذلك حتى يتناقص السكان بدرجة مخيفة.
على أن العلماء على كثرة ما قرأوا من أخبار المجاعات في مصر القديمة، إنما يقفون خاصة موقف الفاحص المتأمل من مجاعة نقشت أخبارها على الصخر من جزيرة سهيل جنوبي أسوان، ولئن كان الخبر منسوبًا إلى حكم الملك “زوسر”- رأس الأسرة الثالثة- فالذي لا شك فيه أنه إنما نقش في تلك الجزيرة بعده بعشرين قرنًا من الزمان، نقشه كهان “الإله خنوم” على عهد البطالمة في مصر، ولعلهم نقشوه في عهد بطليموس العاشر في أكبر الظن.
هذا؛ وقد وقف العلماء على ما ورد في هذه المجاعة من أنها حلت بمصر سبع سنين، وفي أن الملك زوسر دعا وزيره الحكيم “إيمحوتب” ليستفتيه في تلك النازلة التي أحزنته، وليعلم علم هذا الذي أصاب النيل فحبسه عن المجيء في عهده سنين سبع، فذوت الحبوب وصوحت الثمار، وقلت الأقوات، حتى لكأن الناس قد حرموا الأنفاس، فلم ترفأ لطفل أدمعه، وأقام الشباب على الانتظار، على حين امتأـ القلوب أسى، فانحنوا على أطرافهم مدقعين، واشتدت الحاجة برجال الحاشية، وغلقت المعابد، وعم الحزن الناس.
ويروي النص أن الملك زوسر كتب إلى حاكم أسوان يستشيره فيما يجب عليه للخلاص من هذا الخطب، ورأى الآلهة أولى باستدرار العطف، فأشار الحاكم بأن “الإله خنوم” هو الذي يأتي بالنيل الطيب والنيل الردئ، ويأتي الملك إلى الجنوب ليشهد “خنوم”، الذي يقرر في رؤيا للملك أن إهمال شأنه إنما كان سببًا لما حاق بالبلاد من مصائب، ووعد بالخير إن عني بشأنه، ويصدر الملك أمر بأن توقف عليه الأراضي الواقعة على ضفتي النيل، فيما بين جزيرة سهيل والدكة في بلاد النوبة- أي على مدى رحلة طولها ما بين 80، و 90 ميلاً.
فالنص إذن، إنما يتحدث عن مجاعة امتدت سبع سنين، وعن مشورة استشارها الملك من وزير عرف بالحكمة والموغظة الحسنة، وعن حلم رآه، وغير بعيد أن يكون هذا النص صوتًا من واقع بعيد، وأن كهان خنوم حين كتبوه على عهد البطالمة إنما كانوا تحت تأثير ما كان شائعًا يومئذ من أصداء الماضي السحيق.
وبما ورد في التوراة من أصداء السنين السبع الشداد التي جرت على ألسنة من كان بمصر يومئذ من يهود، بخاصة وأن الترجمة السبعينية للتوراة إنما كانت قد تمت بمصر على أيام بطليموس الثاني (284- 246 ق. م)، وأن هناك جالية من يهود إنما كانت تقيم في اليفانتين (جزيرة أسوان)، وتطل من حيث الموقع على سهيل، وأن كهنة “إبزة” في فيلة إنما يقدمون نصًا آخر يقررون فيه أن الملك زوسر قد وهبهم نفس البقعة التي يزعم أصحاب “خنوم” أنها إنما كانت هدية الملك لهم ومنحته لإلههم.
تعليق واحد
تعقيبات: أرض جاسان| سكنى بني إسرائيل في مصر زمن يوسف | مصرايم