قصة فرعون موسى في الخطط المقريزية
قصة فرعون: تذكر الخطط المقريزية أن فرعون موسى (عليه السلام)، والذي يسميه البعض الوليد بن مصعب، وقيل هو من العمالقة و هو سابع الفراعنة. ويقال أنه كان قصيرا طويل اللحية أشهل العينين صغير العين اليسرى، في جبينه شامة، وكان أعرج، وقيل أنه كان يكنّى بأبي مرّة، وأن اسمه الوليد بن مصعب، وأنه أوّل من خضب بالسواد لما شاب، دله عليه إبليس.
وقيل أنه كان من القبط، وقيل أنه دخل منف على أتان يحمل النطرون ليبيعه، وكان الناس قد اضطربوا في تولية الملك، فحكّموه ورضوا بتولية من يوليه عليهم، وذلك أنهم خرجوا إلى ظاهر مدينة منف ينتظرون أوّل من يظهر عليهم ليحكّموه، فكان هو أوّل من أقبل بحماره، فلما حكّموه و رضوا بحكمه أقام نفسه ملكًا عليهم، وانكر قوم هذا وقالوا:
كان القوم أدهى من أن يقلدوا ملكهم من هذه سبيله فلمّا جلس في الملك اختلف الناس عليه فبذل لهم الأموال، وقتل من خالفه بمن أطاعه حتى اعتدل أمره، ورتب المراتب و شيد الأعمال وبنى المدن وخندق الخنادق وبنى بناحية العريش حصنا، وكذلك على جميع حدود مصر، واستخلف هامان، وكان يقرب منه في نسبه، وأثار الكنوز و صرفها في بناء المدائن و العمارات، وحفر خليج سردوس و غيره، وبلغ الخراج بمصر في زمنه سبعة و تسعين ألف ألف دينار بالدينار الفرعونيّ، وهو ثلاثة مثاقيل.
مصرايم بن حام وسبب تسمية مصر بهذا الاسم| الاسم في التوراة والتاريخ
وفرعون هو أوّل من عرّف العرفاء على الناس، و كان ممن صحبه من بني إسرائيل رجل يقال له أمري، وهو الذي يقال له بالعبرانية عمرام، وبالعربية عمران بن قاهث بن لاوي، وكان قدم مصر مع يعقوب (عليه السلام) فجعله حرسًا لقصره يتولى حفظه، وعنده مفاتيحه وأغلاقه بالليل، و كان فرعون قد رأى في كهانته و نجومه أنه يجري هلاكه على يد مولود من الإسرائيليين، فمنعهم من المناكحة ثلاث سنين التي رأى أن ذلك المولود يولد فيها.
فأتت امرأة أمري إليه في بعض الليالي بشيء قد أصلحته له فواقعها، فاشتملت منه على هارون، وولدته لثلاث و سبعين من عمره، في سنة سبع و عشرين ومائة لقدوم يعقوب إلى مصر، ثم أتته مرّة أخرى فحملت بموسى لثمانين سنة من عمره، و رأى فرعون في نجومه أنه قد حمل بذلك المولود، فأمر بذبح الذكران من بني إسرائيل، و تقدّم إلى القوابل بذلك، فولد موسى (عليه السلام) في سنة ثلاثين و مائة لقدوم يعقوب إلى مصر، و في سنة أربع و عشرين و أربعمائة لولادة إبراهيم الخليل (عليه السلام)، و لمضيّ ألف و خمسمائة و ست سنين من الطوفان.
نسب سيدنا ابراهيم عليه السلام والخلاف حول اسمه واسم أبيه بين التوراة والقرآن
وكان من أمره ما قصه اللّه سبحانه من قذف أمّه له في التابوت، فألقاه النيل إلى تحت قصر الملك، و قد أرصدت أمّه أخته على بعد لتنظر من يلتقطه، فجاءت ابنة فرعون إلى البحر مع جواريها فرأته واستخرجته من التابوت فرحمته وقالت:
هذا من العبرانيين من لنا بظئر ترضعه؟ فقالت لها أخته أنا آتيك بها، وجاءت بأمّه فاسترضعتها له ابنة فرعون إلى أن فصل، فأتت به إلى ابنة فرعون و سمته موسى و تبنته، و نشأ عندها، و قيل بل أخذته امرأة فرعون و استرضعت أمّه و منعت فرعون من قتله إلى أن كبر و عظم شأنه فردّ إليه فرعون كثيرا من أمره و جعله من قوّاده.
وكانت له سطوة، ثم وجهه لغزو اليونانيين و قد عاثوا في أطراف مصر، فخرج في جيش كثيف وأوقع بهم فأظفره اللّه وقتل منهم كثيرا و أسر كثيرا و عاد غانما، فسرّ ذلك فرعون و أعجب به هو وامرأته، واستولى موسى وهو غلام على كثير من أمر فرعون، فأراد فرعون أن يستخلفه، حتى قتل رجلا من أشراف القبط له قرابة من فرعون فطلبه، وذلك أنه خرج يومًا يمشي في الناس و له صولة بما كان له في بيت فرعون من المربى و الرضاع، فرأى عبرانيا يضرب، فقتل المصريّ الذي ضربه و دفنه.
تحميل كتاب أساطير التوراة الكبرى وتراث الشرق الأدنى pdf
وخرج يوما آخر فإذا برجلين من بني إسرائيل وقد سطا أحدهما على الآخر، فزجره. فقال له: ومن جعل لك هذا، أتريد أن تقتلني كما قتلت المصريّ بالأمس، ونما الخبر إلى فرعون فطلبه، وألقى اللّه في نفسه الخوف لما يريد من كرامته، فخرج من منف ولحق بمدين عند عقبة أيلة، وبنو مدين أمّة عظيمة من بني إبراهيم (عليه السلام)، كانوا ساكنين هناك.
وكان فراره وله من العمر أربعون سنة، فنزل عند بيرون، و هو شعيب (عليه السلام) من ولد مدين بن إبراهيم، وكان من تزويجه ابنته ورعايته غنمه ما كان، فأقام هنالك تسعا و ثلاثين سنة نكح فيها صفوراء ابنة شعيب، وبنو إسرائيل مع فرعون و أهل مصر كما قال تعالى: «يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ و يستعبدونهم».
فلما مضى من سنة الثمانين لموسى شهر وأسبوع، كلمه اللّه جلّ اسمه، وكان ذلك في اليوم الخامس عشر من شهر نيسان، وأمره أن يذهب إلى فرعون، و شدّ عضده بأخيه هارون و أيده بآيات منها قلب العصا حية وبياض يده من غير سوء و غير ذلك من الآيات العشر التي أحلها اللّه بفرعون وقومه، وكان مجيء الوحي من اللّه تعالى إليه وهو ابن ثمانين سنة، ثم قدم مصر في شهر أيار و لقي أخاه هارون، فسرّ به و أطعمه جلبانا فيه ثريد، وتنبأ هارون و هو ابن ثلاث و ثمانين سنة، وغدا به إلى فرعون وقد أوحي إليهما أن يأتيا إلى فرعون ليبعث معهما بني إسرائيل فيستنقذ أنهم من هلكة القبط وجور الفراعنة.
قصة الخلق ما بين القرآن والتوراة والإنجيل
ويخرجون إلى الأرض المقدّسة التي وعدهم اللّه بملكها على لسان إبراهيم و إسحاق ويعقوب، فأبلغا ذلك بني إسرائيل عن اللّه، فأمنوا بموسى واتبعوه، ثم حضرا إلى فرعون فأقاما ببابه أياما و على كل منهما جبة صوف، ومع موسى عصاه، و هما لا يصلان إلى فرعون لشدّة حجابه، حتى دخل عليه مضحك كان يلهو به فعرّفه أن بالباب رجلين يطلبان الاذن عليك، بزعمان أن إلههما قد أرسلهما إليك، فأمر بإدخالهما.
فلما دخلا عليه خاطبه موسى بما قصه اللّه في كتابه، و أراه آية العصا و آيته في بياض اليد، فغاظ فرعون ما قاله موسى وهمّ بقتله، فمنعه اللّه سبحانه بأن رأى صورة قد أقبلت ومسحت على أعينهم فعموا، ثم أنه لما فتح عن عينيه أمر قوما آخرين بقتل موسى فأتتهم نار أحرقتهم، فازداد غيظه وقال لموسى: من أين ذلك هذه النواميس العظام؟ اسحرة بلدي علموك هذا أم تعلمته بعد خروجك من عندنا؟ فقال: هذا ناموس السماء و ليس من نواميس الأرض. قال فرعون: و من صاحبه؟ قال: صاحب البنية العليا.
قال: بل تعلمتها من بلدي، و أمر بجمع السحرة و الكهنة و أصحاب النواميس و قال:
اعرضوا عليّ أرفع أعمالكم فإني أرى نواميس هذا الساحر رفيعة جدّا. فعرضوا عليه أعمالهم فسرّه ذلك، و أحضر موسى و قال له: لقد وقفت على سحرك و عندي من يفوق عليك.
فواعدهم يوم الزينة، وكان جماعة من البلد قد اتبعوا موسى فقتلهم فرعون، ثم إنه جمع بين موسى وبين سحرته، وكانوا مائتي ألف وأربعين ألفا يعملون من الأعمال ما يحير العقول و يأخذ القلوب، من دخن ملوّنات ترى الوجوه مقلوبة مشوّهة، منها الطويل والعريض و المقلوب جبهته إلى أسفل. ولحيته إلى فوق، و منها ما له قرون و منها ما له خرطوم و أنياب ظاهرة كأنياب الفيلة، ومنها ما هو عظيم في قدر الترس الكبير، ومنها ما له آذان عظام و شبه وجوه القرود بأجساد عظيمة تبلغ السحاب وأجنحة مركبة على حيات عظيمة تطير في الهواء.
ويرجع بعضها على بعض فيبتلعه، وحيات يخرج من أفواهها نار تنتشر في الناس، وحيات تطير وترجع في الهواء وتنحدر على كلّ من حضر لتبتلعه. فيتهارب الناس منها، وعصى تحلق في الهواء فتصير حيات برؤس و شعور وأذناب تهمّ بالناس أن تنهشهم، و منها ما له قوائم، ومنها تماثيل مهولة، وعملوا له دخنا تغشي أبصار الناس عن النظر فلا يرى بعضهم بعضا، ودخنا تطهر صورا كهيئة النيران في الجوّ على دواب يصدم بعضها بعضا ويسمع لها ضجيج، وصورا خضرا على دواب خضر، وصورا سودا على دواب سود هائلة.
فلما رأى فرعون ذلك سرّه ما رأى هو و من حضره واغتم موسى و من آمن به، حتى أوحى اللّه إليه لا تخف إنك أنت الأعلى، وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا. وكان للحسرة ثلاثة رؤساء، ويقال بل كانوا سبعين رئيسا، فأسرّ إليهم موسى: قد رأيت ما صنعتم، فإن قهرتكم أتؤمنون بالله؟ فقالوا نفعل. فغاظ فرعون مسارّة موسى لرؤساء السحرة، هذا والناس يسخرون من موسى وأخيه و يهزؤون بهما، و عليهما دراعتان من صوف وقد احتز ما بليف، فلوّح موسى بعصاه حتى غابت عن الأعين و أقبلت في هيئة تنين عظيم له عينان يتوقدان، والنار تخرج من فيه ومنخريه، فلا يقع على أحد إلّا برص.
ووقع من ذلك على ابنة فرعون فبرصت، وصار التنين فاغرا فاه فالتقط جميع ما عملته السحرة، ومائتي مركب كانت مملوءة حبالا وعصيا وسائر من فيها من الملاحين، وكانت في النهر الذي يتصل بدار فرعون، وابتلع عمدا كثيرة و حجارة قد كانت حملت إلى هناك ليبنى بها، ومرّ التنين إلى قصر فرعون ليبتلعه، وكان فرعون جالسا في قبة على جانب القصر ليشرف على عمل السحرة، فوضع نابه تحت القصر ورفع نابه الآخر إلى أعلاه، ولهب النار يخرج من فيه حتى أحرق مواضع من القصر، فصاح فرعون مستغيثا بموسى (عليه السلام).
البذور المعيبة التي زرعها موشيه دايان وحصدتها إسرائيل في حرب اكتوبر 1973
فزجر موسى التنين فانعطف ليبتلع الناس، ففرّوا كلهم من بين يديه، وانساب يريدهم. فأمسكه موسى و عاد في يده عصا كما كان، ولم ير الناس من تلك المراكب و ما كان فيها من الحبال و العصيّ والناس، ولا من العمد والحجارة وما شربه من ماء النهر حتى بانت أضه أثرا.
فعند ذلك قالت السحرة: ما هذه من عمل الآدميين، وإنّما هو من فعل جبار قدير على الأشياء. فقال لهم موسى: أوفوا بعهدكم و إلّا سلطته عليكم يبتلعكم كما ابتلع غيركم، فآمنوا بموسى و جاهروا فرعون وقالوا: هذا من فعل إله السماء و ليس هذا من فعل أهل الأرض. فقال:
قد عرفت أنكم قد واطأتموه عليّ و على ملكي حسدا منكم لي، وأمر فقطعت أيديهم و أرجلهم من خلاف وصلبوا، و جاهرته امرأته والمؤمن الذي كان يكتم إيمانه، وانصرف موسى فأقام بمصر يدعو فرعون أحد عشر شهرا، من شهر أيار إلى شهر نيسان المستقبل و فرعون لا يجيبه، بل اشتدّ جوره على بني إسرائيل و استعبادهم واتخاذهم سخريا في مهنة الأعمال، فأصابت فرعون وقومه الجوائح العشر، واحدة بعد أخرى، وهو يثبت لهم عند وقوعها و يفزع إلى موسى في الدعاء بانجلائها، ثم يلح عند انكشافها، فإنها كانت عذابا من اللّه عز و جلّ، عذّب اللّه بها فرعون وقومه.
فمنها أنّ ماء مصر صار دما حتى هلك أكثر أهل مصر عطشا، وكثرت عليهم الضفادع حتى وسخت جميع مواضعهم وقذرت عليهم عيشهم وجميع مآكلهم، وكثر البعوض حتى حبس الهواء و منع النسيم، وكثر عليهم ذباب الكلاب حتى جرّح أبدانهم ونغص عليهم حياتهم، وماتت دوابهم و أغنامهم فجأة، وعمّ الناس الجرب و الجدريّ حتى زاد منظرهم قبحا على مناظر الجذميّ، ونزل من السماء برد مخلوط بصواعق أهلك كل ما أدركه من الناس والحيوانات. وذهب بجميع الثمار، وكثر الجراد و الجنادب التي أكلت الأشجار و استقصت أصول النبات.
وأظلمت الدنيا ظلمة سوداء غليظة حتى كانت من غلظها تحسّ بالأجسام، وبعد ذلك كله نزل الموت فجأة على بكور أولادهم، بحيث لم يبق لأحد منهم ولد بكر إلّا فجع به في تلك الليلة، ليكون لهم في ذلك شغل عن بني إسرائيل، وكانت الليلة الخامسة عشر من شهر نيسان سنة إحدى و ثمانين لموسى.
فعند ذلك سارع فرعون إلى ترك بني إسرائيل، فخرج موسى (عليه السلام) من ليلته هذه و معه بنو إسرائيل من عين شمس، و في التوراة أنهم أمروا عند خروجهم أن يذبح أهل كل بيت حملا من الغنم إن كان كفايتهم، أو يشتركون مع جيرانهم إن كان أكثر، و أن ينضحوا من دمه على أبوابهم ليكون علامة، و أن يأكلوا شواه رأسه و أطرافه و معاه و لا يكسروا منه عظما، و لا يدعوا منه شيئا خارج البيوت، و ليكن خبزهم فطيرا. وذلك في اليوم الرابع عشر من فصل الربيع، وليأكلوا بسرعة و أوساطهم مشدودة و خفافهم في أرجلهم و عصيهم في أيديهم، ويخرجوا ليلا.
وما فضل من عشائهم ذلك أحرقوه بالنار، وشرّع هذا عيدا لهم و لأعقابهم، ويسمى هذا عيد الفصح، وفيها أنهم أمروا أن يستعيروا منهم حليا كثيرا يخرجون به، فاستعاروه و خرجوا في تلك الليلة بما معهم من الدواب والأنعام، وأخرجوا معهم تابوت يوسف (عليه السلام)، استخرجه موسى من المدفن الذي كان فيه بإلهام من اللّه تعالى، و كانت عدّتهم ستمائة ألف رجل محارب سوى النساء و الصبيان والغرباء، و شغل القبط عنهم بالمآتم التي كانوا فيها على موتاهم، فساروا ثلاث مراحل ليلا ونهارا حتى وافوا إلى فوهة الجبروت، وتسمى نار موسى، وهو ساحل البحر بجانب الطور.
مسلسل اليهود قادمون| الرد على أن فلسطين كانت أرض مقفرة
فانتهى خبرهم إلى فرعون في يومين و ليلة، فندم بعد خروجهم و جمع قومه وخرج في كثرة كفاك عن مقدارها قول اللّه عز و جل أخبارا عن فرعون أنه قال عن بني إسرائيل وعدّتهم ما قد ذكر على ما جاء في التوراة، أن هؤلاء لشرذمة قليلون، و أنهم لنا لغائطون، ولحق بهم في اليوم الحادي و العشرين من نيسان، فأقام العسكران ليلة الواحد و العشرين على شاطىء البحر، وفي صبيحة ذلك اليوم أمر موسى أن يضرب البحر بعصاه ويقتحمه.
ففلق اللّه لبني إسرائيل البحر اثني عشر طريقا، عبر كلّ سبط من طريق، وصارت المياه قائمة عن جانبهم كأمثال الجبال، وصير قاع البحر طريقا مسلوكا لموسى ومن معه، وتبعهم فرعون و جنوده، فلما خاض بنو إسرائيل إلى عدوة الطور انطبق البحر على فرعون وقومه، فأغرقهم اللّه جميعا و نجا موسى و قومه، ونزل بنو إسرائيل جميعا في الطور وسبحوا مع موسى بتسبيح طويل قد ذكر في التوراة، وكانت مريم أخت موسى وهارون تأخذ الدف بيديها، ونساء بني إسرائيل في أثرها بالدفوف و الطبول، وهي ترتل التسبيح لهنّ.
ثم ساروا في البرّ ثلاثة أيام، وأقفرت مصر من أهلها، ومرّ موسى بقومه ففني زادهم في اليوم الخامس من أيار فضجوا إلى موسى، فدعا ربه فنزل لهم المنّ من السماء، فلما كان اليوم الثالث و العشرون من أيار عطشوا و ضجوا إلى موسى، فدعا ربه ففجر له عينا من الصخرة، ولم يزل يسير بهم حتى وافوا طور سينين غرّة الشهر الثالث لخروجهم من مصر، فأمر اللّه موسى بتطهير قومه و استعدادهم لسماع كلام اللّه سبحانه، فطهرهم ثلاثة أيام، فلما كان في اليوم الثالث وهو السادس من الشهر، رفع اللّه الطور وأسكنه نوره و ظلل حواليه بالغمام و أظهر في الآفاق الرعود و البروق و الصواعق، وأسمع القوم من كلامه عشر كلمات وهي:
وصايا موسى العشر
أنا اللّه ربكم واحد لا يكن لكم معبود من دوني، لا تحلف باسم ربك كاذبا، اذكر يوم السبت و احفظه، برّ والديك و أكرمهما، لا تقتل النفس، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد بشهادة زور، لا تحسد أخاك فيما رزقه. فصاح القوم وارتعدوا وقالوا لموسى: لا طاقة لنا باستماع هذا الصوت العظيم، كن السفير بيننا وبين ربنا، وجميع ما يأمرنا به سمعنا وأطعنا، فأمرهم بالإنصراف وصعد موسى إلى الجبل في اليوم الثاني عشر، فأقام فيه أربعين يوما، ودفع اللّه إليه اللوحين الجوهر المكتوب عليهما العشر كلمات ونزل في اليوم الثاني و العشرين من شهر تموز، فرأى العجل، فارتفع الكتاب وثقلا على يديه فألقاهما وكسرهما، ثم برد العجل و ذرّاه على الماء وقتل من القوم من استحق القتل.
وصعد إلى الجبل في اليوم الثالث و العشرين من تموز ليشفع في الباقين من القوم، ونزل في اليوم الثاني من أيلول بعد الوعد من اللّه له بتعويضه لوحين آخرين مكتوبا عليهما ما كان في اللوحين الأوّلين، فصعد إلى الجبل و أقام أربعين ليلة أخرى، وذلك من ثالث أيلول إلى اليوم الثاني عشر من تشرين، ثم أمره اللّه بإطلاح القبة وكان طولها ثلاثين ذراعا في عرض عشرة أذرع و ارتفاع عشرة أذرع، ولها سرادق مضروب حواليها مائة ذراع في خمسين ذراعا وارتفاع خمسة أذرع.
فأخذ القوم في إصلاحها وما تزين به من الستور من الذهب و الفضة و الجواهر ستة أشهر الشتاء كله، ولما فرغ منها نصبت في اليوم الأوّل من نيسان في أوّل السنة الثانية، ويقال أنّ موسى (عليه السلام) حارب هنالك العرب، مثل طسم و جديس والعماليق وجرهم وأهل مدين حتى أفناهم جميعا، وأنه وصل إلى جبل فاران، وهو مكة، فلم ينج منهم إلّا من اعتصم بملك اليمن أو انتمى إلى بنى إسماعيل (عليه السلام).
وفي ثلثي الشهر الباقي من هذه السنة ظعن القوم في برّية الطور بعد أن نزلت عليهم التوراة، وجملة شرائعها ستمائة وثلاث عشرة شريعة، وفي آخر الشهر الثالث حرّمت عليهم أرض الشام أن يدخلوها، وحكم اللّه تعالى عليهم أن يتيهوا في البرّية أربعين سنة، لقولهم نخاف أهلها لأنهم جبارون، فأقاموا تسع عشرة سنة في رقيم، وتسع عشرة سنة في أحد، و أربعين موضعا مشروحة في التوراة، وفي اليوم السابع من شهر أيلول من السنة الثانية خسف اللّه بقارون وبأوليائه بدعاء موسى (عليه السلام) عليهم لما كذبوا، وفي شهر نيسان من السنة الأربعين توفيت مريم ابنة عمران أخت موسى (عليه السلام)، ولها مائة و ست و عشرون سنة.
وفاة موسى عليه السلام| وفاة هارون
وفي شهر آب منها مات هارون (عليه السلام) وله مائة و ثلاث وعشرون سنة، ثم كان حرب الكنعانيين و سيحون و العوج صاحب البثنية من أرض حوران. في الشهور التي بعد ذلك إلى شهر شباط، فلما أهلّ شباط أخذ موسى في إعادة التوراة على القوم، وأمرهم بكتب نسختها وقراءتها وحفظ ما شاهدوه من آثاره وما أخذوه عنه من الفقه، وكان نهاية ذلك في اليوم السادس من آذار، وقال لهم في اليوم السابع منه:
إني في يومي هذا استوفيت عشرين ومائة سنة، وإنّ اللّه قد عرّفني أنه يقبضني فيه، وقد أمرني أن أستخلف عليكم يوشع بن نون ومعه السبعون رجلا الذين اخترتهم قبل هذا الوقت، ومعهم اليعازر بن هارون أخي فاسمعوا له وأطيعوا، وأنا أشهد عليكم اللّه الذي لا إله إلّا هو، والأرض والسماوات، أن تعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئا و لا تبدّلوا شرائع التوراة بغيرها.
ثم فارقهم وصعد الجبل فقبضه اللّه تعالى هناك وأخفاه، ولم يعلم أحد منهم قبره ولا شاهده، وكان بين وفاة موسى وبين الطوفان ألف وستمائة وست وعشرون سنة، و ذلك في أيام منوجهر ملك الفرس، وزعم قوم أن موسى كان ألثغ، فمنهم من جعل ذلك خلقة، و منهم من زعم أنه إنما اعتراه حين قالت امرأة فرعون لفرعون لا تقتل طفلا لا يعرف الجمر من التمر.
فلما دعا له فرعون بهما جميعا تناول جمرة فأهوى بها إلى فيه، فاعتراه من ذلك ما اعتراه، و ذكر محمد بن عمر الواقديّ: أن لسان موسى كانت عليه شامة فيها شعرات، ولا يدل القرآن على شيء من ذلك، فليس في قوله تعالى: وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي [طه/ ٢٧] دليل على شيء من ذلك دون شيء، فأقاموا بعده ثلاثين يوما يبكون عليه إلى أن أوحى اللّه تعالى إلى يوشع بن نون بترحيلهم، فقادهم وعبر بهم الأردن في اليوم العاشر من نيسان، فوافوا أريحا، فكان منهم ما هو مذكور في مواضعه، فهذه جملة خبر موسى (عليه السلام).