ما هو التلمود اليهودي؟ أقسامه ومكانته في الديانة اليهودية؟: يعد كتاب التلمود من أكثر الكتب الدينية إثارة للجدل، والتي يدور حولها الكثير من التساؤلات، والتي أبرزها: ما هو التلمود، وهل التلمود هو التوراة، وما هو تعريف التلمود لغة واصطلاحا، وتاريخ ظهور التلمود، والسؤال حول أن التلمود كلمة عبرانية فماذا تعني؟ وما هو التلمود البابلي، وما هو التلمود الاورشليمي، وما الفرق بين التلمود والمشنا، والفرق بين التلمود والتوراة؟ وهل التلمود كتاب اليهود المقدس؟
ما هو التلمود اليهودي؟
يعد كتاب التلمود عند اليهود جزءًا من أحكام الديانة اليهودية، ومعنى التلمود بالعربية التعاليم أو الشرح أو التفسير، وهو مجموعة الشرائع اليهودية التي نقلها الأحبار اليهود شرحًا وتفسيرًا للتوراة واستنباطًا عن أصولها، وأصل كلمة تلمود في العبرية من الفعل “לָמַד” بمعنى “تعلم”. و يتكون التلمود من جزئين، هما المشنا، وهي النص أو المتن، والجمارا وهي التفسير أو الشرح، و التلمود هو الاسم الجامع للمشنة والجمارا معًا.
المشنا والجمارا
المشنا عبارة عن مجموعة من تقاليد اليهود المختلفة في شتى نواحي الحياة اليهودية، مع بعض الفقرات من كتاب التوراة، أما الجمارا، فهي مجموعة المناظرات والتعاليم والتفاسير التي وضعت في المدارس العالية بعد الانتهاء من وضع المشنا. ويزعم اليهود بأن هذه التقاليد والتعاليم شفاهية ألقاها النبي موسى عليه السلام على شعبه، وأعطيت عندما كان على الجبل، ثم تدولها هارون واليعازر ويشوع وسلموها للأنبياء، ثم انتقلت عن الأنبياء إلى أعضاء المجلس العلمي الأعلى “السنهدرين”، وخلفاؤهم حتى القرن الثاني بعد الميلاد.
إقرأ أيضًا: سيدنا إبراهيم: متى عاش الخليل عليه السلام؟
ويعد أكثر اليهود التلمود كتابًا منزلاً، ويضعونه في منزلة التوراة، ويرون أن الله أعطى موسى التوراة على طور سيناء مدونة، ولكنه أرسل على يده التلمود شفاهة.
وهناك تلمودان، يعرف أولهما بالتلمود الفلسطيني، ويسميه اليهود التلمود الاورشليمي، ويعرف الثاني بالتلمود البابلي. ولكل من هذين التلمودين طابعه الخاص، وهو طابع البلد الذي وضع فيه. ولغة التلمودين مختلفتان تمثلان لهجتان آراميتين، التلمود الاورشليمي بالآرامية الغربية، أما التلمود البابلي فلهجته آرامية شرقية، أقرب إلى المتدائية (العراقية)، وقد احتوى على بعض المصطلحات اليونانية واللاتينية.
حجم التلمود البابلي أكبر من التلمود الأورشليمي بأربعة أضعاف، ويقع في 5894 صفحة، ويطبع عادة في أثني عشر جزءًا.
التلمود الاورشليمي “التلمود الفلسطيني”
دون التلمود الأورشليمي في فلسطين، حين كان نشأ في فلسطين طبقة من العلماء يعرفون بـ “التنائيم”، فأخذ هؤلاء يشرحون أحكام التوراة، ويدونون قوانينها، وتبويب شرائعها في مجموعة صارت تعرف بـ “المشنا”، وقد استغرق وضعها حوالي مائتي عام (من 10 ميلاديًا إلى 220 ميلاديًا)، حيث تم وضعها بعناية الحبر الكبير يهودا بن شمعون، الملقب بالربان الأقدس (135- 220 م) سنة 200 م، وهو الربان الأكبر يهوذا بن الربان غمليال سابع رؤساء المجمع اليهودي الأعلى “السنهدرين”، وجامع المشنا التي أصبحت فيما بعد أساسًا للتلمود. والتنائيم תנאים كلمة آرامية جمع “تناء תנא”، وتعني “معلم”.
شاهد أيضًا: مسلسل طهران الحلقة الأخيرة مترجمة إلى العربي הסדרה טהרן פרק 8
ثم نشأت في فلسطين طبقة ثانية من الربانيين يعرفون بـ الأمورائيم، أي الأساتذة المحدثون، فأخذ هؤلاء يدرسون المشنا ويعلقون عليها التعليقات الإضافية، ويشرحون متونها شرحًا وافيًا، يتناول شرائع اليهود وتقاليدهم وطقوسهم وتاريخهم، وقد جمعت هذه التعليقات والشروح في مجموعة صارت تعرف بالتلمود الاورشليمي، وكان الفراغ منه في أواخر القرن الثالث للميلاد، وقد فُقد قسم كبير منه، والأمورائيم אמוראים كلمة عبرية تجمع على “أمورا אמורא”، وتعني المكلم أو الشارح.
ولما اشتد ضغط الرومان على اليهود في فلسطين، لم يعد باستطاعة الربانيين الاستمرار على البحث والدرس بحرية وأمان، فاضطر عدد كبير منهم إلى الهجرة إلى العراق، حيث أنشأوا مدارس كبرى للأمورائيم. وفي هذه البيئة التي كان يسودها الأمان والحرية الدينية المطلقة، استطاع الأمورائيم أن يشرحوا المشنا شرحًا أكثر تفصيلاً، وأعم موضوعًا مما اضطلع به علماء فلسطين، فصارت مجموعة الشروح العراقية تعرف بالتلمود البابلي، الذي تم وضعه سنة 490 م، وبها انتهى دور الأمورائيم.
التلمود البابلي
تأسست في العراق أربعة مراكز رئيسة للدراسات الدينية تحت إشراف الربانيين، والتي تعاونت فيما بينها لوضع التلمود البابلي، كان ثلاثة منها على نهر الفرات أعلاها “نهر دعة” في منطقة الفرات الأوسط بجوار عانة، وتليها جنوبًا مدينة “فومبديثة” بجوار مدينة الأنبار، و “سورا” في منطقة بابل، ثم “ماحوزة” على نهر دجلة بجوار طيسفون.
وكانت منطقة “نهر دعة” من مدن التلمود المهمة، وكان موقعها في الفرات الأوسط، والظاهر أن اسمها كان يطلق على هذا الإقليم بأجمعه ومن ضمنه الأنبار. وقد تعرضت “نهر دعة” إلى هجوم أذينية الثاني ملك تدمر، فبعد انتصاره على الملك شابور الأول سنة 262م، هاجم المدينة وهدمها بما فيها مدرستها الدينية اليهودية، وعلى أثر ذلك انتقلت المدرسة إلى “ماحوزة”، ثم أصبحت “سورا” مركزًا رئيسيًا للدراسات الدينية في بابل، فأسس فيها أبا أريخا المسمى بالراب سنة 219م مدرسة دينية كبرى، ونشأت معها “فومبديثة” بجوار مدينة الأنبار التي أسست فيها إحدى كبريات المدارس التلمودية.
ولفظة “فومبديثة” تعني “فم البداة”، والبداة ذكرها ياقوت ووصفها هي والجبة أنهما طسوجان من سواد الكوفة. وقد ذكر بنيامين التطيلي، الذي زار العراق في القرن الثاني عشر الميلادي، أن الأنبار هي “فومبديثة” في “نهر دعة”، والتي يقيم فيها نحو ألف يهودي، بينهم العلماء والفقهاء، وبها قبور مثل قبري يهودا صموئيل، وبها أيضًا كنيس ر. بستناي رأس الجالوت، والربانيين “ناثان ونحمن بن بابه”.
أما “سورا” فكانت تقع بجوار الحلة، على شط النهر المتفرع من الفرات، وكان يعرف قديمًا بنهر سورا، ويسميه ابن سرابيون بالصراة الكبرى، وقد أعاد حفره الحجاج بن يوسف، وكان عند سورا جسر شهير يعرف بقنطرة القاميغان. وكان رأس الجالوت في سورا، حيث تأسست فيها سنة 219م مدرسه كبرى كما تقدم بيانه. وقد استمرت هذه المدرسة تقوم بمهمتها ثمانية قرون حتى أغلقت، ومعها مدارس أخرى في خلافة القادر بأمر الله (991- 1031م)، ومن ثم انتقل مركز اليهود العلمي إلى الأندلس.
وقد نشأت في العراق بعد انتهاء دور الامورائيم، طبقة من العلماء يعرفون بـ “السبورائيم”، وهي كلمة عبرية معناها الأساتذة الشارحون، وكانت تطلق على طبقة من العلماء اليهود استمر نشاطهم العلمي في بابل من سنة 500 إلى سنة 580م، وكانت أهم أعمالهم التعليق على التلمود، وإصدار الفتاوى الدينية ليهود الشرق والغرب. وقد استمر عمل الجائونيم حوالي 450 سنة، فيما بين 589 إلى 1030. والجائونيم גאונים كلمة عبرية مفردها جاؤون גאון، كانت تطلق على الحاخامات روؤساء المدرستين الدينيتين اليهوديتين في بابل (في فومبديثة وسورا).
إقرأ أيضًا: تحميل كتاب “حكايات محرمة في التوراة” لـ جوناثان كيرتش pdf
ويمكن ايجاز أجيال الجكماء التي تعاونت في وضع التلمود البابلي وتعليمه في الآتي:
- التنائيم في فلسطين من سنة 10 إلى 219م.
- الأمورائيم في فلسطين والعراق من 219 – 500م.
- السبورائيم في العراق من 500- 588م.
- الجائونيم في العراق من 589- 1030م.
التلمود واهم مبادئه العنصرية
يؤكد التلمود على مبدأ الاستعلاء والتفوق العنصري على بقية شعوب الأرض، حيث جعل الناس عبيدًا لليهود على اعتبار أنهم الشعب المختار، وأن الله اصطفاهم دون سواهم من شعوب الأرض. كما تتجسم فيه انعزالية الشعب اليهودي، وحقه في جميع خيرات الأرض، التي وهبها له إلهه الخاص دون الآخرين من الناس.
يصور التلمود اليهود على أنهم من طينة أرفع من طينة باقي العالم، وأن بقية نوع الإنسان الذين لم يعتنقوا الديانة اليهودية خدم لهم كغيرهم من الحيوانات غير العاقلة.
وتحت عنوان “عصر الإيمان”، يقول العلامة ديورانت في كتابه قصة الحضارة، أن الربانيين والحاخامات أخذوا يفسرون التوراة حسب أهوائهم، بالشكل الذي يرضي غرائزهم الشريرة، ونزوعهم على بقية أجناس البشر.
وتشير بعض نصوص من التلمود على أنه يجب على كل يهودي أن يبذل جهده لمنع تسلط باقي الأمم في الأرض، لتصير السلطة لليهود وحدهم، فإذا لم تكن لهم السلطة عدوا كأنهم في حياة النفي والأسر، ويعيش اليهود في حرب مع باقي الشعوب، حتى ينتقل لهم الثراء والسلطان من الجميع، وحينئذ يدخل الناس أفواجًا في دين اليهود.
التلمود والمسيح
أما نظرة التلمود للمسيحية، فقد جاء في التلمود الكثير من عبارات الطعن والسب للمسيحية والمسيح عليه السلام، ما لا يستسيغه المستوى الأخلاقي الإنساني، وإننا نحجم عن نقل هذه العبارات لعدم لياقة ذكرها.
ويجيز اليهود استعمال النفاق مع غير اليهود، كما يقول التلمود بالتناسخ ، أي تناسخ الأرواح، وهو فكر تسرب لبابل من الهند، وأخذه حاخامات بابل من المجتمع البابلي.
فرق يهودية تنكر التلمود
وقد ظهرت فرقة يهودية، وهي فرقة القراؤون، والتي أسسها قحان بن داود، وهو من علماء يهود العراق، ويدعو اتباعها لمناهضة التلمود والاكتفاء بالتوراة، وقد ظهرت في بغداد العباسية وفي فارس، واشتهرت بالتزمت حول الطقوس وحفظ يوم السبت، ولا تزال بقية منها موجودة في القرم، ومنهم في الجزء المحتل من فلسطين. ومن الجماعات اليهودية التي اعتنقت هذا المبدأ يهود الجزيرة العربية، الذين كانوا بعيدين عن محيط التلمود، وعن واضعيه من الربانيين في فلسطين.
ينقسم التلمود إلى ستة أقسام هي:
1- زراعيم “قسم الزراعة”، باللغة العبرية סדר זרעים، ويتناول البركات والوصايا المرتبطة بالأرض، ويتكون من 11 مبحث.
2- موعيد “قسم المواعيد والأعياد”، باللغة العبرية סדר מועד، ويتناول أحكام يوم السبت والأعياد والصوم، ويتكون من 12 مبحث.
3- ناشيم “قسم النساء”، باللغة العبرية סדר נשים، ويتناول أحكام العلاقة الزوجية والزواج والخطبة والطلاق، ويتكون من 7 مباحث.
4- نزيقين “قسم الأضرار”، باللغة العبرية סדר נזיקיו، ويتناول الأحكام التشريعية والقضائية من بيع وشراء، ويتكون من 10 مباحث.
5- قداشيم “قسم المقدسات”، باللغة العبرية סדר קדשים، ويتناول أحكام الهيكل والقرابين، ويتكون من 11 مبحث.
6- طهاروت “قسم الطهارة”، باللغة العبرية סדר טהרות، ويتناول أنواع النجاسات وكيفية التطهر منها، ويتكون من 12 مبحث.
خصوصية التلمود بالنسبة لليهود
كان اليهود حريصين على ألا يطلع على التلمود غيرهم، إلا من يأمنون جانبه من غير اليهود، ممن يؤيد نزعاتهم وميولهم، خوفًا من ثورة العالم المسيحي ضدهم، وقد أخفوه 14 قرنًا منذ أن وضعه حاخاماتهم، ففي سنة 1243 أمرت الحكومة الفرنسة في باريس بإحراق التلمود علنًا، بعدما انكشف ما يحتوي عليه من عبارات الطعن والإهانة ضد الأغيار من الناس، وضد المسيحية بوجه خاص، وقد تم حرقه عدة مرات في نختلف الأزمان والأقطار.
أقدم نسخة للمشنا
أقدم نسخة مخطوطة للمشنا موجودة في “بارما”، يرجع تاريخها إلى القرن الثالث عشر الميلادي، وفي كل من كامبريدج ونيويورك نسخة تعود إلى القرنين العاشر والحادي عشر بعد الميلاد. وقد ظهرت أول طبعة للمشنا مع شروح في بيبليس في إيطاليا سنة 1492م. أما الطبعات الحالية فهي من القرن الخامس عشر والسابع عشر للميلاد، وأهم ترجمة إنجليزية للمشنا البابلية، هي ترجمة “كانون دنبي” 1935م.
تفسيرات موسى بن ميمون للمشنا
وضع موسى بن ميمون، الفيلسوف اليهودي القرطبي الأندلسي (1139- 1205م)، بعد انتقاله إلى مصر تفسيرًا وشرحًا مفصلاً بالعربية اليهودية لكتاب المشنا أسماه “السراج”، وكتبه لفظًا وتفسيرًا باللغة العربية الدارجة في مصر، وجعل الكتابة بالحرف العبري، وقد أتم الكتاب سنة 1168م.
كما ألف أيضًا مصنفًا آخر بالعبرية يبحث في الفكر اليهودي، استمده من التلمود وشروحه وهوامشه، وأطلق عليه اسم “تثنية التوراة”، بالعبرية “مشنا توراة משנה תורה”، وقد اعتمد في ذلك على التلمود البابلي، مع الاستعانة بالتلمود الأورشليمي كلما دعت الحاجة إليه.
كما وضع بن ميمون كتابًا آخر بعنوان “دلالة الحائرين”بالعبرية מורה נבוכים، حاول فيه أن يدعم المعتقدات اليهودية بأدلة عقلية منطقية لا نقلية. وقد جرى في كتابه هذا على النحو الذي سلكه في كتابه “السراج”، من حيث كتابته بالعربية اليهودية. ويلاحظ أن موسى بن ميمون كغيره من الكتاب اليهود في القرون الوسطى لم يعن عناية كافية بقواعد الإعراب على النحو الصحيح في اللغة العربية.
أول طبعة كاملة للتلمود
كانت أول طبعة كاملة للتلمودين البابلي والاورشليمي بعد ظهور وسائل النسخ، تلك التي طبعن بين الأعوام 1520- 1524م في البندقية، وقد أحرق في إيطاليا سنة 1553م.
التلمود بالعربية والانجليزية
يبلغ التلمود باللغة الإنجليزية بأصوله ومتونه وشروحه وتعليقاته 36 مجلدًا، وقد نقل الجزء الأول إلى العربية سنة 1909م، وهو يذكر أهل الرجال في كل جيل من أجيال علماء التلمود. ويعد العثور على نسخة كاملة من التلمود صعب للغاية نظرًا لما حذفه المتأخرون من عبارات.
المصدر: د/ أحمد سوسة، أبحاث في اليهودية والصهيونية، دار الأمل للنشر والتوزيع، الأردن، ص 7- 12.
لتحميل الكتاب بصيغة pdf