كان تأثر الفلسفة اليهودية بالفلسفة العربية شاملاً للدرجة التي يروق فيها لبعض الباحثين الغربيين إطلاق تعبير الفلسفة المتأسلمة Islamicate على كل ما انتجه اليهود في المجال الفلسفي.
وقد حظى الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون باهتمام الباحثين عبر كل العصور، حيث رأى الشيخ مصطفى عبد الرازق أستاذ الفلسفة الإسلامية بالجامعة المصرية، أنه ليس من الممكن التعامل مع ابن ميمون بوصفه يهوديًا، فيقول: “إنني ممن يجعلون ابن ميمون من فلاسفة الإسلام، وقد قلت في كلمة ألقيتها في حفلة ابن ميمون في دار الأوبرا في أول ابريل 1935 ما نصه: “أبو عمران موسى ابن ميمون فيلسوف من فلاسفة الإسلام، فإن المشتغلين في ظل الإسلام بذلك اللون الخاص من ألوان البحث النظري، مسلمين وغير مسلمين يسمون منذ أزمان فلاسفة الإسلام.
وتسمى فلسفتهم فلسفة إسلامية، بمعنى انها نبتت في بلاد الإسلام وفي ظل دولته، وتميزت ببعض الخصائص من غير نظر إلى دين أصحابها ولا جنسهم ولا لغتهم، ويقول “الشهرستاني” في كتاب “الملل والنحل”: “المتأخرون من فلاسفة الإسلام مثل يعقوب بن إسحاق الكندي وحنين بن إسحاق، الخ”، وإذا كان حنين بن إسحاق من فلاسفة الإسلام، فإنه لا وجه للتفرقة بينه وبين موسى ابن ميمون الإسرائيلي.
للمزيد إقرأ أيضًا:
- تحميل كتاب “حكايات محرمة في التوراة” لـ جوناثان كيرتش pdf
- وثائق إسرائيلية رسمية تؤكد: الموساد نشر كتاب “نكت سياسية” في مصر قبل حرب أكتوبر لإزعاج القيادة المصرية
- المسلسل الإسرائيلي “اتونوميا- منطقة حكم ذاتي” الحلقة الثانية مترجمة إلى العربية
وابن ميمون من فلاسفة العرب على رأي من يسمى الفلسفة الإسلامية فلسفة عربية نسبة إلى العرب، بمعنى اصطلاحي يشمل جميع الأمم والشعوب الساكنين في الممالك الإسلامية، المستخدمين للغة العربية في أكثر تآليفهم العلمية؛ لتشاركهم في لغة كتب العلم.
ويكشف ما ذكره الشيخ مصطفى عبد الرازق، أنه تبنى رؤية كاشفة لعقلية ابن ميمون، استطاع من خلالها فهم الفوانين المعرفية الحاكمة لمجمل نتاجه الفلسفي، وإدراك كل ما اعتمل في عقل هذا الفيلسوف.
وعند النظر إلى عالم ابن ميمون، نجد أنه على الرغم من تبؤئه لمنصب رئيس الطائفة اليهودية في مصر، واشتغاله بتفسير الكثير من النصوص اليهودية المقدسة، فإن عقليته كانت عقلية عربية إسلامية خالصة، حيث إن نتاجه الفلسفي والديني، سواء الذي كتبه باللغة العربية أو باللغة العبرية يتطرق إلى قضايا الذات والصفات الإلهية، وخلق الكون والإنسان، والنفس البشرية والجبر والاختيار، والبعث والخلود والسعادة الإنسانية، تلك القضايا التي كانت تمثل في مجملها محاور الفلسفة العربية الإسلامية.
وقد تناول ابن ميمون مجمل هذه القضايا في أعماله على نحو شديد التأثر بالفارابي، ومن هنا فإن كثيرًا ما يوصف بأنه التلميذ الأمين لفلسفة الفارابي، ويستدل الباحثون على هذا التأثر بأحد خطاباته التي بعثها إلى مترجمه، والتي جاء بها: “لا تدع كتب المنطق تشغلك كثيرًا سوى تلك التي ألفها أبو النصر الفارابي، إن كل ما ألفه الفارابي يتسم بقدر كبير من الحكمة، وإن أفكاره تساعد المرء على فهم الحقائق، وإن الشك لا يرقى إلى حكمته”.
وكان للكشف عن هذا الخطاب الذي بعثه ابن ميمون إلى مترجمه، والذي أعلى فيه من شأن الفارابي أعظم الأثر في قيام كثير من الباحثين بالكشف عن مدى تأثره بكل ما أنتجه الفارابي، فذهب الباحث هيربيرت ديفيدسون، إلى أن ابن ميمون اقتبس فقرات مطولة من كتابي “فصول المدني” و “آراء أهل المدينة الفاضلة” للفارابي في تفسيره لأحد النصوص اليهودية المقدسة، وذهب عدد آخر من الباحثين إلى أن مقال موسى ابن ميمون عن المنطق يعد تلخيصًا لأعمال الفارابي في المنطق.
كما يذكر إسرائيل ولفنسون، ما نصه: “ولسنا نعلم رجلاً آخر من أبناء جلدتنا غير ابن ميمون قد تأثر بالحضارة الإسلامية تأثرًا بالغ الحد حتى بدت آثاره وظهرت صبغته في مدوناته من مصنفات كبيرة ورسائل صغيرة“.
ويعد كتاب “دلالة الحائرين” العمل الفلسفي الأهم لموسى ابن ميمون، وحظى هذا الكتاب باهتمام الباحثين عبر العصور الذين عكفوا على التنقيب عن المصادر الفلسفية المختلفة التي استقى منها ابن ميمون معارفه الفلسفية وكشف الباحث “شلومو بينس” في إحدة دراساته عن مدى تأثر ابن ميمون بالفارابي وابن سينا والغزالي وابن رشد.
ويظهر في كتابه “دلالة الحائرين” اقتباسه الكثير من الكلمات العربية والإسلامية التي مصدرها القرآن الكريم، والمؤلفات الفقهية الإسلامية، لاسيما ما يتعلق بقصة الخلق وما يعرف بغوامض العلم الإلهي، فقد وضعه على غرار بعض المؤلفات الفلسفية الإسلامية التي هدفت للتوفيق بين الفلسفة والشريعة؛ ليؤكد بعض الآراء الدينية؛ إذ حاول تعريف اليهود بأصول دينهم وإعادة إحيائها مرة أخرى، لكن على نسق إسلامي، بشكل يتوافق مع الفكر الفلسفي الذي كان سائدًا خلال العصر الوسيط.
إن أعمال موسى ابن ميمون الفلسفية، تعد نموذجًا لتفاعل العقلانية اليهودية مع العقلانية الإسلامية بذات الفترة في مواجهة الفهم الغيبي والسلفي للنصوص المقدسة.
المصدر: تمارا رودافسكي، موسى ابن ميمون، ترجمة: جمال الرفاعي، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى، 2013.