يروي سفر التكوين في توراة اليهود أن هجرة إبراهيم عليه السلام بدأت من أور الكلدانيين، على اعتبار أنها الموطن الأصلي له، كما سبق وناقشنا في مقالات سابقة.
وتنسب التوراة هجرة ابراهيم عليه السلام إلى تارح أبي إبراهيم عليه السلام، كما أنها تجعل كنعان هدف الرحلة من أور، وأن حاران لم تكن أكثر من محطة وقوف يستريح فيها المهاجرون أيامًا أو سنين عددًا.
هجرة ابراهيم عليه السلام
هذا ويرجع بعض الباحثين أسباب هجرة ابراهيم عليه السلام، إلى أن “أور” إنما كانت في زمن إبراهيم قد فقدت شهرتها وطغت عليها بابل، فبارت تجارتها، ورسب الطين في مرفئيها، وباتت الحياة فيها قلقة غير مستقرة، مما حمل أهلها على مغادرتها والارتحال شمالاً، ومن هنا رحل إبراهيم من أور إلى حاران، وتقول تعليقات “ابنجدون” أنه ربما كان من أسباب هجرة ابراهيم عليه السلام اضطراب سياسي في جنوب العراق، أصابت جرائره معيشة أهل أور، فلم تستقر عليه أحوال المعيشة والتجارة في مدينة أور.
للمزيد إقرأ أيضًا:
- قبر يوسف عليه السلام: قصة دفن يوسف في النيل
- شتيزل مسلسل إسرائيلي الحلقة الثانية 2 مترجمة إلى العربية
- جنرال في الجيش الإسرائيلي: كارثة حرب 73 ليست بشيء مقارنة بالحرب القادمة
هذا ويرى الأستاذ رشيد الناضوري أن هجرة ابراهيم عليه السلام تتصل اتصالاً وثيقًا بالأحداث التاريخية، التي كانت سائدة في جنوب بلاد الرافدين في بداية الألف الثاني قبل الميلاد، حيث كان عصر الاحتلال الأموري والعيلامي، أو كما يطلق عليه عصر إيسين ولارسا، وهي المرحلة التاريخية التي حدثت أثناءها عدة تحركات بشرية، مثل تحركات العناصر العيلامية من “سوسة” بعيلام، وتحركات العناصر الآمورية من سورية بحذاء نهر الفرات، مما أدى إلى ازدياد ظاهرة الصراع السياسي والحضاري بين حكومات المدن السومرية والآكدية وتلك العناصر الوافدة، وكان ذلك من الأسباب المباشرة التي أدت إلى هجرة ابراهيم عليه السلام وجماعته إلى حاران.
أسباب هجرة ابراهيم عليه السلام
وهكذا ترجع هجرة ابراهيم عليه السلام في نظر بعض العلماء إلى الأسباب الاقتصادية والسياسية في نفس الوقت، كما أنها من أور، ولم تكن من حاران، هذا فضلاً عن الغزو العيلامي، الذي أنهى حكم الملك السومري “أيبي- سين” (2029- 2006 ق. م)، آخر ملوك أسرة أور الثالثة، إنما كان واحدًا من أسباب هجرة ابراهيم عليه السلام.
وليس هناك من شك في أهمية الأسباب السياسية والاقتصادية في الهجرات بصفة عامة، غير أن الأمر بالنسبة إلى هجرة ابراهيم عليه السلام، إنما هو جد مختلف، وهنا فعليًا علينا أن نتذكر، في البداية ، أن إبراهيم عليه السلام لم يكن ملكًا من الملوك، وإنما كان رسولاً نبيًا، هذا فضلاً عن هجرة رجل بأسرته، لا تعني في كل الأحوال اضطراب الأمور في البلد الذي هاجر منه، إلا إذا كانت هناك هجرة جماعية من هذا البلد.
ومن ثم يرى دكتور بيومي مهران أن هجرة ابراهيم عليه السلام، لم تكن لأسباب سياسية أو اقتصادية، وإنما كانت لأسباب دينية، كانت هجرة نبي يرى أن يبشر بدعوة التوحيد في مكان آخر، غير هذه الأرض التي لم تتقبل دعوته.
هجرة ابراهيم عليه السلام في القرآن الكريم
وقد قص القرآن الكريم كيف بدأ إبراهيم عليه السلام دعووته مع أبيه بلهجة تسيل أدبًا ورقة، يهديه بها إلى الصراط المستقيم، فأشار إلى الأصنام مبينًا أنها لا تنفع ولا تضر، ولا تسمع ولا ترى، ولا تشعر بعابد يعبدها أو عاص يعصيها، ثم بين لأبيه أنه ليس مخترعًا للدعوة، وأنها من لدن علي قدير، وأنه قد تلقى من العلم ما لم يتلق أبوه، وأنه لا ضرر عليه إذا اتبع ملة ولده أو عمل برأيه، واختتم نصحه برجاء تقدم به إلى والده، أن يحذو حذوه، ويسلك سبيله، وإلا فالطريق الذي يسلكه غير طريق الهدى، هي طريق مليئ بالأشواك، وأنه طريق الشيطان الرجيم.
غير أن أباه رفض الدعوة، بل وهدد إن لم ينته عن دعوته هذه ليرجمنه وليهجرنه مليًا، وكان آزر في ذلك مغمضًا عينيه عن اعتبارات النبوة، متجاهلاً إياها، فاستنكر النصيحة، وسفه الرأي وسخر من الشريعة الجديدة، فما كان من إبراهيم عليه السلام تأدبًا مع أبيه إلا أن يدعو له بالمغفرة، وأن ينتظر إجابة دعوته إلى حين.
قال تعالي في سورة مريم (41- 48): “وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا. إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا. يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا. يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا. يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا. قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا. قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا. وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا”.
وهذا يدل بوضوح على أن هناك بين إبراهيم وأبيه خلافًا عميق الجذور، تأدى بالوالد أن يأمر ابنه بالهجرة، حيث لا أمل في اتفاق، ولكن سرعان ما تتأزم الأور بين الخليل عليه السلام وقومه إلى الحد الذي لا يجد القوم مخرجًا منه، إلا أن يلقوا بإبراهيم في نار أوقدوها لإحراقه، وهنا يفقد إبراهيم الأمل في إيمان القوم، فيقرر الهجرة “وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين” (سورة الصافات، الآية 99).
ولم يجد إبراهيم عليه السلام من بين القوم من يؤمن به إلا ابن أخيه لوط، يقول تعالى في سور العنكبوت (الآية 26): “فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ”.
ويكتب الله عز وجل لخليله عليه السلام، وكذا لابن أخيه لوط النجاة من القوم الكافرين، بعد أن أهدوا العدة لإحراقه، يقول سبحانه وتعالى في سورة الأنبياء (الآيات 68- 71): “قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ. قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ. وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ”.
وليس في هذه الآيات ما يشير إلى هجرة أبي إبراهيم معه، ولو آمن أبوه به ثم هاجر معه، لكان ذلك حدثًا هامًا جديرًا بالتنصيص عليه، تكريمًا له ولإبراهيم في نفس الوقت، ولم يكن ابن أخيه لوط أقرب إليه من أبيه حتى ينال وحده شرف الهجرة ومثوبة التوحيد.
بل إن القرآن يشير بوضوح ووصراحة إلى أن إبراهيم إنما قد تبرأ من أبيه، بعد ما تبين له أنه عدو لله، يقول تعالى في سورة التوبة (الآية 114): “وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ”.
هذا فضلاً عن أن القرآن الكريم إنما قد أمر المسلمين أن يقتدوا بإبراهيم والذين معه، إلا في استغفاره لأبيه، يقول سبحانه وتعالى في سورة الممتحنة (الآية 4): “قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَ ٰۤؤُا۟ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ”.
الخلاف بين القرآن والتوراة حول هجرة ابراهيم عليه السلام
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أمرين، يختلف القرآن فيهما عن التوراة، الأول: أن أبا إبراهيم لم يهاجر أبدًا مع الخليل عليه السلام، فضلاً عن عدم الإيمان به، والثاني: أن الهجرة إنما كانت “إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين”، وليست هذه الأرض بحال من الأحوال “حاران”، وإنما هي موضع خلاف بين المفسرين، فيما بين مكة المكرمة وبيت المقدس ومصر، وكلها أماكن حط الخليل رحاله فيها بعد هجرته من حاران.
فإذا تذكرنا أن موطن الخليل كان في حاران، لتبين لنا بوضوح أن هجرة ابراهيم عليه السلام هذه إنما كانت من حاران إلى كنعان، فمصر فالحجاز فكنعان مرة أخرى، ومن ثم فلا صلة لهذه الهجرة بأور التي في منطقة الفرات الأدنى.
وعلى أية حال، نستطيع القول أن هجرة ابراهيم عليه السلام لم تكن لأسباب سياسية أو اقتصادية، وإنما كانت لأسباب دينية تتصل بدعوة التوحيد التي حمل لواءها الخليل عليه السلام، وبخاصة وأن حاران كانت أثناء هذه الهجرة (حوالي عام 1865 ق. م)، وطوال القرنين التاسع والثامن عشر قبل الميلاد، مدينة مزدهرة، وتقع على طريق التجارة القادمة إليها من الشرق والغرب، أضف إلى ذلك أن الخليل إنما كان يقيم المحاريب لله العلي القدير، مما يدل على أن الأسباب الدينية لعبت دورًا هامًا في هجرته.
ولعل من الغريب أن التوراة لم تشر إلى الأسباب الحقيقية إلى هجرة ابراهيم عليه السلام، أو كما يقول “شاهين مكاريوس” أن التوراة لم تأت على السبب الصريح لمهاجرة إبراهيم أرض آبائه، وإنما يؤخذ مما جاء فيها من مواضع متفرقة أنه فضل ذلك كي يعبد الله عملاً بما أنزل عليه من الوحي، وهذا يطابق ما جاء في القرآن الكريم من أنه غادر أهله وبلاده لأنهم كانوا عبد أصنام، وكان يعبد الله فخاصمهم، وارتحل عنهم إلى حيث يبيت في مأمن منهم، وحيث تتسنى له عبادة الحق دون معارضة أو خصام.
وأيًا ما كان الأمر، فإن الرحلة قد بدأت إلى كنعان، ولا تشير التوراة من قريب أو من بعيد، إلى أماكن حط الخليل فيها وركبه رحالهم أثناء هجرتهم هذه حتى وصلوا إلى شكيم، والتي يحتمل أنها تل بلاطة شرق نابلس الحالية، وإن كان المؤرخ اليهودي المشهور “يوسف بن متى” يذهب إلى أن إبراهيم كان ملكًا في دمشق، وأن “نقولا” الدمشقي يقول في الكتاب الرابع من تاريخه، أن “ابراميس” (إبراهيم) حكو في دمشق، وكان مغيرًا قد من أرض بابل من البلاد التي تسمى بلاد الكلدانيين، ولم ينض عليه زمن طويل حتى هجرها وقومه إلى كنعان.
وليس لدينا دليل على هذه الرواية من الكتب المقدسة (التوراة والإنجيل والقرآن الكريم)، وإن ورد في التوراة اسم (اليعاذر الدمشقي)، وهو وكيل بيت إبراهيم، وإن أشار المؤرخون المسلمون إلى رواية ابن عباس من أن إبراهيم قد ولد بغوطة دمشق، في قرية يقال لها “برزة”، في جبل يسمى “قايسون”. وإن ذهب الحافظ ابن عساكر إلى أنه ولد ببابل، وإنما نسب إليه هذا المقام لأنه صلى فيه، إذ جاء معينًا للوط عليه السلام.
وكل ذلك يدل على أن هناك علاقة ما بين إبراهيم ودمشق، وإن كانت وصلت إلينا من مصادر متأخرة، وعلى أية حال، فإن إبراهيم عليه السلام قد اختار، طبقًا لرواية التوراة، في زيارته الأولى لأرض كنعان الطريق الشاق والموحش، إذ كان متجولاً فوق التلال نحو الجنوب، ولعل السبب في ذلك أن حواف البلاد المليئة بالأشجار إنما تقدم للغريب ملجأ وملاذًا في الأرض الأجنبية عنه، بينما هي تقدم الخلاء الواسع المرعى بكثرة لقطعانه ورعاته.
وعندما أراد الخليل عليه السلام أن يستقر في بادئ الأمر، أنما فضل أن يكون ذلك فوق هضبة، ذلك لأنه بأقواسه ومقاليعه، لم يكن في حالة تمكنه من أن يخاطر بالصدام مع الكنعانيين، الذين كانوا بسيوفههم وحرابهم، أكبر من ند له، ولم يكن إبراهيم بعد مستعدًا للمغامرة بعيدًا عن الهضاب.
وأيًا كان الأمر، فقد نزل إبراهيم عند شكيم في مكان “بلوطة مورة”، بين جبل عيبال وجرزيم، وهناك بنى مذبحًا للرب، أو مكانًا لعبادة الإله الواحد الأحد، وقد ظلت تلك الشجرة (البلوطة) أجيالاً طويلة موضع التوقير، وربما تحرش الكنعانيون بالخليل عليه السلام، ومن ثم فقد كان ينتقل من مكان لآخر، فانتقل أولاً إلى المنطقة الجبلية بين بيت إيل، وتقع على مبعدة 12 ميلاً إلى الشمال من أورشليم، و “عاي”، وتوحد بالتل على مبعدة 12 ميلاً إلى الشمال الغربي من أريحا، فيضرب خيامه هناك، ويقيم مذبحًا للرب، ثم يرتحل ارتحالاً متواليًا نحو الجنوب.
المصدر: كتاب “بنو إسرائيل من عصر إبراهيم عليه السلام وحتى عصر موسى عليه السلام”، للدكتور محمد بيومي مهران، دار المعرفة الجامعية، 1999، ص 84- 91.